مقالات

الخبير في مجال التقنية وصفي الصفدي يكتب لـ ” رقمنة” : الانسان جوهر التحول الرقمي

رقمنة 

* وصفي الصفدي

في مقالي السابق تناولت فكرة “التقنية بلا روح، أداة بلا معنى”، حين تتحول الأداة إلى غاية بحد ذاتها وتفقد معناها الإنساني. واليوم أودّ أن أضع الإنسان في مركز الصورة، لا كعنصر مكمل للتحول الرقمي، بل كجوهره الحقيقي الذي يحدد قيمته ووجهته.

لقد أثبتت التجارب حول العالم أن التحول الرقمي لا يبدأ من الشاشات والأنظمة، بل من العقول والقلوب التي تصممها وتستخدمها. فكلما ازداد تركيزنا على التقنية وحدها، ابتعدنا خطوة عن الهدف الأسمى: تسخير التكنولوجيا لخدمة الإنسان، لا العكس.

*التقنية وسيلة والغاية إنسان*

حين تُقدَّم الرقمنة كهدف نهائي، تصبح مجرد سلسلة من المشاريع والمنصات والتطبيقات التي تُطلق ثم تُهمل. أما حين تُقدَّم كوسيلة لخدمة الإنسان، فإن كل خطوة في التحول الرقمي تصبح جزءاً من رحلة تطوير حياة الناس، تسهيل أعمالهم، وتوفير وقتهم، وتمكينهم من الإبداع بدلاً من إرهاقهم بإجراءات معقدة.

التحول الرقمي الحقيقي لا يُقاس بعدد الأنظمة الجديدة ولا بحجم الاستثمارات في مراكز البيانات، بل بمدى سلاسة تجربة المستخدم ورضاه. فالمستخدم لا يهتم بما يدور خلف الكواليس من أكواد وخوارزميات، بقدر اهتمامه بتجربة بسيطة وذكية تنجز طلبه دون أن تجعله يشعر أنه يقاتل نظاماً بيروقراطياً إلكترونياً بثوب عصري.

*حين تصبح الرقمنة عائقاً*

 المفارقة أن بعض مبادرات الرقمنة، رغم نواياها الطيبة، تحوّلت إلى عوائق جديدة. فبدلاً من أن تسهّل الإجراءات، أضافت طبقات من التعقيد الرقمي. منصات تتطلب عشرات الخطوات، تطبيقات لا تعمل إلا على أنظمة معينة، واجهات مربكة، ورسائل خطأ لا يفهمها سوى المطورون.

وحين يشعر الإنسان أن التقنية تُقيده بدلاً من أن تخدمه، تتحول الرقمنة من جسر إلى جدار. عندها يفقد الناس الثقة في المنصات والخدمات، وتفقد المؤسسات الهدف من التحول برمته.

*التحول يبدأ من الداخل*

 التحول الرقمي الناجح يبدأ من ثقافة مؤسسية جديدة تضع الإنسان أولاً. من إعادة تصميم الإجراءات لتكون أكثر مرونة، إلى تدريب الموظفين على التفكير التجريبي، إلى بناء فرق تضع تجربة المستخدم في قلب كل قرار.

فما فائدة أحدث التقنيات إن بقيت الأساليب الإدارية على حالها؟ وما جدوى الاستثمار في الذكاء الاصطناعي إذا ظلت القرارات تُتخذ بعقلية الورق والختم والانتظار؟

التحول الرقمي ليس شراء برمجيات، بل بناء بيئة قادرة على التعلم، التفاعل، والاستجابة بذكاء لاحتياجات الناس.

*توصيات لضمان تحوّل رقمي إنساني*

  1. 1. تبسيط الإجراءات قبل رقمنتها: لا جدوى من تحويل التعقيد الورقي إلى تعقيد إلكتروني. الإصلاح يبدأ من تبسيط المسار الإداري أولاً.
  2. 2. تصميم الخدمات من منظور المستخدم: يجب إشراك المستفيدين في اختبار الخدمات الرقمية وتقييمها قبل إطلاقها.
  3. 3. تطوير مهارات الكوادر البشرية: الرقمنة لا تنجح إلا بموظفين قادرين على التفكير التحليلي والتفاعل الإيجابي مع التقنية.
  4. 4. قياس رضا المستخدم بانتظام: مؤشرات الأداء يجب أن تتجاوز عدد المعاملات الرقمية لتشمل مدى السهولة والرضا والتجربة الكلية.
  5. 5. التركيز على الثقافة المؤسسية: التقنية أداة، لكن ثقافة التعاون، والشفافية، والمرونة هي التي تضمن استدامة التحول الرقمي.
  6. 6. الاستثمار في الذكاء العاطفي للخدمات: واجهات التعامل مع المواطن يجب أن تراعي الجانب الإنساني، فلا تكون باردة أو منفصلة عن احتياجاته.

*الخاتمة*

التحول الرقمي ليس مشروعاً تقنياً، بل مشروع إنساني بامتياز. فالقيمة الحقيقية للتكنولوجيا لا تُقاس بما تملكه المؤسسات من أنظمة متقدمة، بل بما تمنحه للإنسان من وقت وفرص وراحة. إننا بحاجة إلى أن نعيد ترتيب الأولويات: التقنية في خدمة الإنسان، لا الإنسان في خدمة التقنية.

حين نصل إلى هذه المرحلة من النضج، نكون قد انتقلنا من رقمنة الخدمات إلى تحول حقيقي في الفكر والإدارة، ومن مجرد تحديث الأنظمة إلى تجديد المعنى الإنساني للتقدم الرقمي.

*الخبير في مجال التقنية والاتصالات

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى