مقالات

خبير التقنية وصفي الصفدي يكتب لـ ” رقمنة” : الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل …. كيف نتعامل مع الأزمة الجديدة

رقمنة

*وصفي الصفدي

شهد العالم خلال العقدين الماضيين تحولا عميقا بفعل منصات التواصل الاجتماعي التي أعادت تشكيل الوعي والسلوك الإنساني على مستوى عالمي. ورغم حجم الآثار الاجتماعية والنفسية التي خلفتها هذه المنصات، فإن ما يلوح في الأفق اليوم يشير إلى موجة أشد قوة وأكثر تعقيدا تتمثل في تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة التي بدأت تتجاوز حدود العرض والمشاركة إلى حدود المحاكاة والخلق والتأثير المباشر في العاطفة والفكر والهوية.

في الماضي كانت شبكات التواصل تعتمد على محتوى بشري يعاد ترتيبه، بينما يعتمد الذكاء الاصطناعي على إنتاج المحتوى ذاته من نصوص وصور وصوت ومقاطع فيديو، مع قدرة متنامية على محاكاة المشاعر وإيجاد علاقات تفاعلية شديدة الشبه بالتجربة الإنسانية. هذا التحول يشير إلى مستوى جديد من التأثير يمتد إلى مساحات أكثر حساسية في الوعي النفسي والاجتماعي، خصوصا لدى الفئات الأصغر سنا.

أولا من التواصل إلى المحاكاة ولماذا يزداد الخطر:

الفرق الجوهري بين التقنيتين يتمثل في أن الذكاء الاصطناعي لا يعرض محتوى يصنعه البشر فقط بل يخلق واقعا رقميا موازيا له القدرة على التأثير بصورة تفوق قدرة الخوارزميات التقليدية. إذ يمكن للنماذج الحديثة أن تقدم دعما عاطفيا، أو تستمع بتعاطف ظاهري، أو تمثل دور الصديق والموجه، وهو ما قد يؤدي إلى تشكل علاقات ارتباط نفسي مع كيانات غير بشرية على نحو قد يعيق النمو الاجتماعي السليم.
كانت شبكات التواصل تدفع إلى المقارنة الاجتماعية وإثارة القلق وتوليد العزلة، أما الذكاء الاصطناعي فيضيف طبقة جديدة من التأثير من خلال علاقات رقمية تبدو شخصية ومباشرة، مما قد يقود إلى اعتماد نفسي على أنظمة مصممة هندسيا لتعظيم التفاعل وليس لتعزيز الرفاه الإنساني.

ثانيا دروس قاسية من تجربة وسائل التواصل الاجتماعي:

تشكيل الأزمة التي أحدثتها منصات التواصل لم يكن نتاجا لعامل واحد، بل لثلاثة مسارات رئيسية أدت مجتمعة إلى التدهور الاجتماعي والنفسي الملحوظ خلال السنوات الماضية.
• اقتصاد الانتباه قدم المنصات باعتبارها أدوات لجذب المستخدم وليس لحمايته، وكان معيار النجاح يقاس بمدة البقاء على الشاشة وليس بجودة التجربة الإنسانية.
• التشريعات تأخرت عن فهم التقنية وتأثيراتها، في الوقت الذي كانت فيه الشركات توسع حضورها وسيطرتها إلى حد جعل إصلاح مسارها أصعب من السابق.
• غياب الشفافية سمح للخوارزميات بالعمل في بيئة معزولة بعيدة عن الرقابة العلمية أو المجتمعية، مما مكن المنصات من التنصل من مسؤولية الأضرار التي نتجت عن استخدامها.
هذه الأخطاء نفسها يمكن أن تتكرر اليوم مع الذكاء الاصطناعي إذا لم يتم التعامل مع التقنية الجديدة بوعي أكبر وإطار تنظيمي أوضح وأسبق.

ثالثا ضرورة التحرك المبكر لتنظيم الذكاء الاصطناعي:

تقنيات الذكاء الاصطناعي أصبحت قادرة على التفاعل مع الإنسان بطريقة تتجاوز حدود النص والصورة لتصل إلى مستويات أكثر قربا من التجربة الإنسانية، وهو ما يجعل التنظيم المبكر حاجة استراتيجية وليست خيارا متأخرا.
• يجب أن ترتكز النماذج الجديدة على مبدأ الرفاه قبل التفاعل من خلال إلزام الشركات بتطوير أنظمة تراعي صحة المستخدم وحاجاته النفسية والاجتماعية، خاصة الأطفال.
• يجب فرض معايير واضحة لإنهاء عصر الأنظمة غير القابلة للفحص، مع تبني آليات تضمن وسم المحتوى المنتج عبر الذكاء الاصطناعي بصورة ثابتة وواضحة، وتوفير منفذ للباحثين والهيئات الرقابية لفحص النماذج عالية الخطورة.
• يجب تمكين الجيل الجديد عبر إدماج مهارات محو الأمية الرقمية في المناهج الدراسية من أجل مواجهة التضليل الرقمي والاستخدام غير المنضبط للأنظمة التفاعلية.

رابعا الطريق إلى الأمام فرصة للإنقاذ وليست مدخلا للندم:

الدرس الأكبر الذي قدمته لنا وسائل التواصل يتمثل في أن الانتظار حتى ظهور الأضرار يجعل أي محاولة للإصلاح متأخرة وغير فعالة. التكنولوجيا تتقدم بسرعة، وإذا لم يتقدم معها الوعي والسياسة العامة بالسرعة ذاتها فإن الفجوة بينهما ستتسع، وسيقع عبء النتائج على جيل كامل من الأطفال والمراهقين.
ويجب أن يرتكز المستقبل على ثلاثة مبادئ أساسية هي التنظيم المبكر الذي يحمي الإنسان دون أن يعيق الابتكار، وفصل نماذج الأعمال عن التلاعب النفسي، وفرض الشفافية والمساءلة الكاملة على الشركات المطورة للنماذج الذكية.

خاتمة نحو مستقبل رقمي أكثر إنسانية:

الذكاء الاصطناعي ليس خطرا محتما، ولكنه في الوقت نفسه ليس تقنية يجب أن تترك دون إطار ناظم يضمن عدم تحولها إلى مصدر جديد للأزمات النفسية والاجتماعية. والسؤال الحقيقي لا يتعلق بمدى خوفنا من الذكاء الاصطناعي، بل بمدى قدرتنا على وضع قواعد تحمي إنسانيتنا قبل أن يصبح الضرر واقعا يصعب إصلاحه.
إن مستقبل الأجيال القادمة يتوقف على قدرتنا اليوم على بناء سياسات حكيمة ومتوازنة تجعل من التكنولوجيا أداة تقدم لا مصدر تهديد، وتعيد الإنسان إلى مركز المشهد الرقمي بدلا من أن يكون مجرد مادة لاختبارات الخوارزميات.

*خبير في مجال التقنية والاتصالات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى