
رقمنة
*شاكر خليف
*الحلقة المفقودة في معادلة الابتكار*
في خضم الحديث المتصاعد عن الثورة الرقمية التي تقودها تقنيات مثل نمذجة معلومات البناء (BIM) والذكاء الاصطناعي (AI)، يجب ان ندرك بأن النجاح الحقيقي والمستدام لهذا التحول لا يكمن في التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في البيئة التي تحتضنها ، و هذه البيئة تتشكل وتُصقل عبر إطار سياساتي استراتيجي ومدروس ، فبدون سياسات واضحة، ستبقى أحدث التقنيات مجرد جزر معزولة من الابتكار في محيط من الممارسات التقليدية، وسيكون أثرها محدودًا ومؤقتًا.
*إطار السياسات في السياق الرقمي الهندسي*
إطار السياسات ليس مجرد مجموعة من القوانين الإلزامية، بل هو منظومة متكاملة من القواعد والمعايير والمحفزات والإجراءات التي تهدف إلى تحقيق رؤية وطنية محددة. في سياق التحول الرقمي لقطاع الإنشاءات، يشمل هذا الإطار أربعة محاور رئيسية:
* السياسات التنظيمية (Regulatory Policies)
وهي التي تحدد “ما هو إلزامي”، مثل فرض استخدام البيم في المشاريع الحكومية.
* السياسات التمكينية (Enabling Policies)
هي التي توفر “الأدوات اللازمة للنجاح”، مثل برامج التدريب وتطوير الكفاءات .
* السياسات التحفيزية (Incentive Policies)
التي تشجع على “التبني الطوعي”، مثل تقديم إعفاءات ضريبية للشركات التي تستثمر في التكنولوجيا.
* السياسات التشريعية (Legislative Policies)
هي التي توفر “الغطاء القانوني”، مثل تحديث كودات البناء والعقود الهندسية.
تكمن الأهمية الجوهرية للسياسات في أنها تمثل الإطار الاستراتيجي الذي يحوّل التحول الرقمي في قطاع الإنشاءات من مجرد مبادرات تكنولوجية متفرقة إلى رؤية وطنية منهجية ومستدامة. فبدلاً من ترك السوق لحالة من الفوضى والتفاوت، تقوم السياسات بتوحيد المعايير، وخلق طلب مُحفِّز للاستثمار في تقنيات البيم والذكاء الاصطناعي، وتوفير اليقين القانوني الذي يحمي جميع الأطراف، وبناء الكفاءات البشرية اللازمة من خلال التدريب والتعليم. وبهذا، لا تعمل السياسات كقيد، بل كجسر ضروري ينقل القطاع بأكمله من ممارساته التقليدية إلى مستقبل أكثر كفاءة وابتكارًا وتنافسية، مما يضمن تحقيق أقصى قيمة للمشاريع وحفظ المال العام.
*السياسات ليست عائقاً بل جسر نحو المستقبل*
قد ينظر البعض إلى السياسات على أنها قيود بيروقراطية تعيق حرية السوق. لكن في سياق التحول الرقمي لقطاع معقد مثل الإنشاءات، تلعب السياسات دورًا معاكسًا تمامًا: إنها تزيل العوائق، توحد الجهود، وتخلق بيئة مستقرة يمكن للابتكار أن يزدهر فيها.
إن الدول التي نجحت في تحقيق قفزات نوعية في هذا المجال، مثل المملكة المتحدة وسنغافورة ودول اسكندنافيا، لم تفعل ذلك بفضل شركاتها فقط، بل بفضل رؤيتها السياسية الواضحة واستثمارها في بناء إطار عمل وطني متكامل. لقد أدركت هذه الدول أن التكنولوجيا وحدها لا تبني المستقبل، بل السياسات الحكيمة هي التي ترسم خريطته وتعبد الطريق للوصول إليه.
*الخبير في مجال التقنية والهندسة




