مقالات

الخبير الإستراتيجي والتطوير المؤسسي محمد صالح يكتب لـ ” رقمنة” ….. أبل وفخ الثقافة المؤسسية

رقمنة 

*محمد صالح

هل يمكن للثقافة المؤسسية أن تكون سلاحاً ذو حدين؟ أيمكنها أن تكون حاضنة للإبداع والتطور أو مجرد قيدًا يُكبل المؤسسات. ففي سباق الذكاء الاصطناعي الصاخب، تظهر أبل كمتفرجٍ حذر، متمسكةً بفلسفتها في السرية والتحكم، بينما يتجاوزها العالم بفوضى إبداعية لا تعترف بالانتظار. فهل يمكن لثقافة أبل المؤسسية أن تصمد أم أن الوقت قد حان لكسر القواعد؟

ذات يوم، عرفت أبل تحت قيادة ستيف جوبز الطريق إلى النجاح عبر ثقافة مؤسسية مزجت البساطة الراقية مع السرية والبيئة المغلقة. أبل، بكل هدوئها الأنيق، لم تكن فقط تصنع المنتجات، بل حاولت صنع أسلوب حياة يجذب المستخدمين بشكل لا يقاوم. حيث أسس ستيف جوبز فلسفة أبل على أربع ركائز رئيسية، أولًا، التحكم الكامل بالنظام البيئي من خلال أجهزة وبرمجيات متكاملة تقدم تجربة نوعية شاملة وآسرة. ثانيًا، السرية التامة أثناء التطوير عبر منع التسريبات وضبط إيقاع الإعلان والتحكم في السرد الإعلامي. وثالثًا، تجربة المستخدم المحسوبة بعناية من خلال التصاميم الساحرة ببساطتها وأناقتها، تصاميم لا مكان فيه للتجريب غير المحسوب. وأخيرًا ولربما أهم ركيزة، انتظر حتى يصنع أحدهم شيئًا مذهلًا ثم طوره وجوده وقدمه للعالم ضمن تصاميمك المذهلة وبيئتك الساحرة.

هذه الثقافة نجحت بشكل مذهل في عالم الأجهزة المادية أكانت الآيفون، الماك، وغيرها، حيث يمكن فرض الانغلاق، وتقييد التفاعل الخارجي، وضبط الإبداع ضمن حدود صارمة….. لكن الزمن تغيّر.

دخلنا حقبةً جديدة صاخبة لا ترقص على ألحان أبل الهادئة، بل تتفجر فيها الإيقاعات من كل حدبٍ وصوب.

حقبة بطلها الذكاء الاصطناعي، خصوصًا التوليدي منه، لَم تُكتَب نوتاتُه في مختبرات صامتة، بل خرج من بيئات مفتوحة، تعجّ بالتجريب، بالخطأ والصواب، بالفوضى الخلّاقة التي لا تعترف بالمثالية.

أصبحت النماذج تُطلق قبل أن تنضج، وتُصحح وهي على الهواء مباشرة، وأحيانًا مفتوحة المصدر عابرة للحدود يشارك في تطويرها عشرات الآلاف من المطورين والمستخدمين في آنٍ واحد. صار الابتكار شأناً جماعياً لا نخبوياً منعزلًا، شفافاً لا سرياً، حتى بتنا نرى فيه الشراكات تتداخل، وتتشكل تحالفات الشركات، وتتلون وتتنوع استثماراتها ودعمها لرواد الذكاء الاصطناعي منتهيةً بإدماج النماذج الصاعدة في تقنيات العمالقة.

في خضم هذا الجنون، أين تقف أبل؟ أما زالت تقف على الضفة، تراقب، وتتريث وفق ركيزتها الرابعة. فهي لم تركب الموجة مبكرًا كما فعلت مايكروسوفت، ولم تُسَّرع إيقاعها كما فعلت جوجل، ولم تُشعل السباق كما فعلت (OpenAI )، بل يبدو أنها فضّلت التقوقع ضمن ثقافتها المؤسسية حيث تسير على رؤوس أصابعها في تردد، وكأنها تتساءل هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدخل معبدها دون أن يفسد طقوسه؟ هل يمكن تطويع هذا الوحش الهائج ليخضع لإيقاعها البطيء المدروس؟ نحن نتكلم عن شركة أطلقت مساعدها الذكي سيري عام 2011 ولم تنجح لليوم في جعله ذكيًا!

السؤال في جوهره ليس عن تقنية، بل عن ثقافة المؤسسة وفلسفتها. هل تصلح الثقافة المؤسسية التي بنت مجدها على الانتظار والقفز على الحصان الرابح، في عصرٍ لا يتسامح مع خطيئة الانتظار؟ هنا تصبح المعركة أكبر من سباق تقني. إنها مواجهة بين فلسفتين متناقضتين في زمن لا يسمح بنجاة إلا فلسفة واحدة.

لكن مشكلة أبل أن التقنيات الناشئة تتكاثر، وتتطور وتتغير بشكل يتجاوز الحدود بسرعة قد لا تتيح لها أن تلقي بطلاسم سحرها المعهود، بينما يبدو أنها لا تزال مؤمنة بعبقريتها وتفوقها المعتاد، وعليه تظن أن بإمكانها الانتظار حتى يهدأ غبار العاصفة، لتدخل بثقة، لا لتُجرب، بل لتُهيمن كالعادة، مخاطرةً بالوقوع في فخ تقديس ذاتها، ومتأخرةً في ترتيب فوضاها وحروبها الأهلية الداخلية التي أوهنت ثقافتها المؤسسية في مرحلة صعبة للغاية، وكأنها لم تتعلم من خطايا إمبراطورية نوكيا التي أطاحت هي نفسها بها قبل أقل من عقدين.

 في الغالب شركة عملاقة كأبل التي تجاوزت قيمتها السوقية مطلع تموز 3 تريليونات دولار أمريكي، شركة لطالما تفوقت في التصميم والتسويق وجودة المنتجات وحماية خصوصية المستخدمين ستتكيف، ولكن لربما على طريقتها وببطء، فلن تركب موجة الفوضى الإبداعية، لكنها ستحاول تطويع الذكاء الاصطناعي ليخدم نموذجها المغلق. فهل سينجح ذلك؟ أم أنها ستستمر ولكن بعد أن تفقد مكانتها الرائدة في عالم لم يعد يتحمل الانتظار طويلًا حتى تنضج التكنولوجيا؟

  • خبير استراتيجي وتطوير مؤسسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى