رقمنة
الاقتصادية – د. محمد راشد الشريف
يشتهر عدد من المدن العالمية بوصفها مدنا مبتكرة وتتسيد على أثر ذلك قائمة المدن الأكثر ابتكارا. لكن ما المعايير التي تقاس بها ابتكارية المدن؟ وهل تتعلق بالمدينة نفسها وموقعها الجغرافي، أو بعدد من يقطنها من الموهوبين على سبيل المثال؟.
طورت شركة بيانات أسترالية مؤشرا يختص بترتيب المدن حسب مناخها الابتكاري، ويعرض المدن الأكثر ابتكارا على مستوى العالم. يبني هذا المؤشر ترتيب المدن على معايير ومؤشرات فرعية تفوق الـ 150 مؤشرا، ومصنفة وفق ثلاثة عوامل رئيسة، هي الأصول الثقافية، والبنية التحتية وكذلك ترابط الأسواق.
ولمعرفة العلاقة بين العوامل الثلاثة سالفة الذكر والابتكار، فإن الابتكار في أبسط صوره يتمحور حول توليد الأفكار، ومن ثم تنفيذ تلك الأفكار وتحويلها إلى خدمات أو منتجات ملموسة، وأخيرا توافر الظروف الاقتصادية والتقنية المناسبة وترابطها لتسويق تلك المنتجات. فالأفكار تنساب بغزارة في بيئات ثقافية نشطة كالتي تزخر بالملتقيات العلمية والثقافية، أو تنتشر فيها متاحف العلوم والفنون. حتى تترجم تلك الأفكار إلى واقع محسوس، يتطلب وجود بنية تحتية تتمثل في المؤسسات البحثية كالجامعات، وقطاع أعمال نشط ليتبنى المشاريع البحثية والابتكارية، مع توافر رأسمال جريء لتتحرك عجلة الابتكار. إلى جانب ذلك، توافر شبكة من خدمات الاتصالات والنقل المتطور تعد من المعايير المهمة في ميزان المدن الأكثر ابتكارا. حتى يكتمل نسج خيوط الابتكار تسهم شبكة مترابطة من الأسواق والأعمال والتقنيات الحديثة في تعزيز التواصل وانسياب الأفكار والمعلومات وترجمتها إلى واقع.
وبالنظر إلى ذلك المؤشر، فإن أفضل عشر مدن ابتكارا كمدينة طوكيو، بوسطن، سيدني وسيئول في كوريا الجنوبية، تتقاسم سمات مشتركة أهمها قوة اقتصاداتها، واحتضانها معاهد وجامعات متميزة في مخرجاتها البحثية والأكاديمية، علاوة على تنوعها الثقافي. كما أن المدن التي توجد فرص عمل جديدة تسهم في دوران الحركة الاقتصادية بشكل أكبر، وتؤدي لزيادة العرض والطلب على البضائع والخدمات، وبالتالي جذب لرؤوس أموال جديدة.
إن تدفق الاستثمارات للمدن الجاذبة يسهم في زيادة المنافسة وتحسين الخدمات والمنتجات عبر دوران عجلة الابتكار والإبداع. كما يضع المؤشر مدينة دبي في الترتيب الـ 29 لأفضل المدن ابتكارا، وهي المدينة العربية الوحيدة ضمن أفضل 50 مدينة عالمية. ويأتي تصنيف دبي متماشيا مع المعايير السابقة التي أشرت إليها مثل تدفق الاستثمارات الأجنبية، التنوع الثقافي، وتوافر شبكة مواصلات حديثة تسهم بشكل غير مباشر في تنمية الابتكار.
وفي محاولة لاستحداث نظام بيئي حضري لتعزيز الابتكار، قام طوني شاي ريادي الأعمال الأمريكي بإنشاء مدينة حضرية مصغرة بجوار مركز مدينة لاس فيجاس عام 2012، باستثمار يبلغ 350 مليون دولار. تقوم فلسفة هذا المشروع على مبادئ تعزيز التعلم المشترك co-learning، الترابط connectedness، والتلاقي collisions، كمحفزات لزيادة الإنتاجية، والابتكار، والسعادة في تلك المدينة. وبالفعل استطاع المشروع بنهاية 2017 إضافة ما يقارب 210 ملايين دولار كناتج اقتصادي، وإيجاد أكثر من 1500 فرصة عمل بإجمالي مرتبات تصل إلى 70 مليون دولار سنويا. وقد ساعد ذلك المشروع على تحويل مدينة لاس فيجاس إلى مقصد استثماري، خصوصا للشركات الناشئة.
إن فرص التحول لمدن تعزز الابتكار ليست بعيدة المنال في حال وضوح الرؤى والأهداف والتصميم على التطوير. وفي ظل التوجهات الحديثة للمملكة، سواء عبر “رؤية 2030” التي تحوي مبادرات عدة كتعزيز البنية التحتية للنقل والخدمات اللوجستية وتطوير الخدمات الرقمية، أو تحسين جودة الحياة في المدن، وليس انتهاء بإنشاء هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار، كلها ستسهم في إحداث نقلات نوعية لمناخ الابتكار والإبداع في مدن المملكة.
التعليقات مغلقة.