الاقتصاد

الخبير في تخصص الأعمال الالكترونية أحمد غندور يكتب لـ ” رقمنة” : نحو مؤشر محلي لقياس وتقييم الاقتصاد الرقمي في الأردن

رقمنة 

*الاستاذ الدكتور أحمد غندور

الأردن يعيش اليوم حالة توسع رقمي حقيقي. خدمات حكومية تتحول إلى منصات رقمية. شركات تعيد تنظيم أعمالها حول البيانات والتقنيات. شباب يدخلون ميادين جديدة مثل البرمجة والذكاء الاصطناعي والعمل الحر عبر المنصات. المشهد يبدو واعدًا إذا نظرت إليه من بعيد. لكن السؤال الذي يفرض نفسه عندما تقترب أكثر بسيط ومزعج في آن واحد. ماذا أضاف كل هذا للتحويل الاقتصادي والدخل وفرص العمل وجودة الحياة.
هنا تظهر الحاجة إلى مؤشر محلي لقياس وتقييم الاقتصاد الرقمي. ليس رقمًا للاستهلاك الإعلامي. بل أداة إدارة ومساءلة. أنت تحتاج أرقامًا تخبرك كيف غيّرت الرقمنة طريقة إنتاجك وخدماتك ودخلك. لا يكفي أن تعرف كم عدد الخدمات الحكومية الرقمية. المهم أن تعرف كم معاملة اكتملت رقميًا من البداية إلى النهاية من دون توقيع ورقي واحد. لا يكفي أن تعلن عن برامج تدريب في المهارات الرقمية. المهم أن تقيس كم خريجًا حصل على وظيفة أو دخل مستقر بعد عام من التدريب. لا يكفي أن تقول إن التجارة الإلكترونية تنمو. المهم أن تعرف كم شركة أردنية صدّرت منتجاتها وخدماتها عبر القنوات الرقمية وكم دخلًا وفرت للاقتصاد.
جوهر الفكرة أن نفرق بين جاهزية رقمية وأثر اقتصادي رقمي. أي دولة تستطيع أن تستثمر في شبكات ألياف، ومراكز بيانات، ومنصات حكومية. هذا مستوى أول. لكن السؤال الحاسم يرتبط بمستوى آخر. كيف انعكس كل هذا على الإنتاجية والصادرات والوظائف والعدالة الجغرافية. أدبيات قياس الاقتصاد الرقمي اليوم تكرر هذه الفكرة بمصطلحات مختلفة. كثير من المؤشرات تقيس توفر البنية التحتية والاستخدام العام. القليل يقيس القيمة المضافة والأثر على الاقتصاد الكلي. في الأردن لا نملك رفاهية الاكتفاء بالموجة الأولى.
هنا تظهر أيضًا حدود المؤشرات الدولية القائمة. البنك الدولي طوّر مؤشر GovTech Maturity Index الذي يقيس نضج الحكومة الرقمية في أربعة مجالات. الأنظمة الحكومية الأساسية. الخدمات الرقمية. المشاركة الرقمية. والعوامل الممكنة مثل الاستراتيجيات والقوانين والمهارات. هذا المؤشر مفيد عندما تريد أن تعرف أين تقف حكومتك في مسار التحول الرقمي مقارنة بدول أخرى. لكنه لا يجيب عن أسئلة من نوع. كم تساهم الأنشطة الرقمية في الناتج المحلي. كم وظيفة خلقها الاقتصاد الرقمي خلال ثلاث سنوات. ما أثر المنصات والعمل الحر على دخل الأسر. البنك الدولي نفسه يقدمه كأداة لتحسين مشاريع التحول الحكومي وليس كأداة شاملة لقياس حجم الاقتصاد الرقمي أو أثره الكلي.
الأمر ذاته تقريبًا مع مؤشر DESI في الاتحاد الأوروبي. DESI يركز على الاتصال ورأس المال البشري واستخدام الإنترنت ورقمنة الأعمال والخدمات العامة الرقمية في بيئة الاتحاد الأوروبي. بيئة مختلفة جذريًا عن الأردن في حجم السوق وطبيعة التنظيم وقوة الاقتصاد الرسمي وحجم الاقتصاد غير الرسمي. المؤشر يخدم غاية واضحة هناك. مقارنة دول الاتحاد وتتبع تنفيذ سياسات محددة. لكنه لا يعرف تعقيدات سوق عمل مثل سوق الأردن ولا طبيعة الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد ولا الفوارق الجغرافية والاجتماعية بين المحافظات.
وجود GTMI وDESI وأمثالهما قيمة مضافة ولا يجوز تجاهلها. لكنها لا تكفي لقياس الاقتصاد الرقمي الأردني. يمكن أن تساعدك في المقارنة العامة وفي الحوار مع الشركاء الدوليين. لكنها لا تلتقط ما يهمك داخل بلدك. لا ترى حجم الاقتصاد غير الرسمي الرقمي. لا تقيس الدخل الذي يحققه الشباب من العمل الحر عبر المنصات. لا تقيس التحول الفعلي في سلاسل القيمة في الصناعة أو الزراعة أو السياحة عندما تدخل التقنيات الرقمية على الخط.
في المقابل بدأت منظمات مثل OECD تدعو إلى أدوات قياس جديدة للاقتصاد الرقمي. تتحدث عن جداول عرض واستخدام رقمية تقيس إنتاج السلع والخدمات الرقمية وقيمتها المضافة وقنوات الطلب الرقمية. هذه الدعوة نفسها اعتراف بأن المؤشرات الحالية غير كافية حتى في دول متقدمة. إذا كانت الدول الغنية تبحث عن أطر قياس أكثر دقة، فكيف بدولة مثل الأردن ما زالت في طور بناء بنيتها الرقمية وبحثها عن نموذج نمو جديد.
من هنا تصبح فكرة المؤشر المحلي ليست ترفًا بل ضرورة. مؤشر محلي يعني تعريفًا أردنيًا للاقتصاد الرقمي. يأخذ في الحسبان دور القطاع العام وثقل الاقتصاد غير الرسمي والفجوات بين المركز والأطراف وبين الفئات الاجتماعية. ويضع حدودًا واضحة لما يقيسه. لا يكتفي بعدّ عدد خطوط الإنترنت أو عدد التطبيقات أو عدد مراكز الابتكار. بل يضع أسئلة محددة. كم زادت إنتاجية العامل في قطاع معين بعد إدخال حلول رقمية. كم تقلص زمن المعاملة وكلفتها للمواطن. كم ارتفعت صادرات الخدمات الرقمية. ما الفرق في الدخل بين من يمتلك مهارات رقمية قابلة للتوظيف ومن لا يمتلكها.
مؤشر كهذا لا ينافس المؤشرات الدولية بل يكملها. تستطيع أن تحتفظ بهوية وطنية للمؤشر تركّز على الأثر المحلي. وفي الوقت نفسه تبني نافذة صغيرة تعيد تجميع بعض مؤشراتك وفق أبعاد GTMI أو DESI لكي تحافظ على القدرة على المقارنة الدولية. الأرقام نفسها تغذي المؤشر الوطني والنافذة الدولية. لكن قرار السياسات والموارد يبقى مرتبطًا بالمؤشر الوطني لا بالمؤشرات المستوردة.
الفائدة المباشرة لصانع القرار واضحة عندما تصبح الأرقام من هذا النوع متاحة. تستطيع أن توجّه الاستثمار في البنية التحتية الرقمية نحو المحافظات الأكثر تأخرًا بناء على بيانات لا انطباعات. تستطيع أن تعيد تصميم برامج التدريب الرقمية وفق فجوات حقيقية في السوق وليس وفق ما يقدمه مزودو التدريب. تستطيع أن تعيد النظر في سياسات الدفع الرقمي ورسومه عندما ترى أثرها على حجم المعاملات في التجزئة وعلى نمو التجارة الإلكترونية. تستطيع أن تقيس بشكل دوري أثر كل مبادرة حكومية رقمية على الوقت والتكلفة وجودة الخدمة بدل الاعتماد على قصص نجاح فردية.
القارئ في منصة مثل رقمنة جزء من هذا النقاش. أنت صاحب مشروع أو موظف في شركة أو مسؤول في مؤسسة أو أكاديمي أو شاب يعمل عبر المنصات. المؤشر الوطني للاقتصاد الرقمي سيقيس واقعك أنت لا واقعًا افتراضيًا. سيقيس قدرتك على الوصول إلى البنية الرقمية. سيقيس كيف تستفيد شركتك من الأدوات الرقمية. سيقيس ما إذا كانت مهاراتك تزيد من فرصتك في العمل والدخل. وسيقيس ما إذا كان موقعك الجغرافي وطبقتك الاجتماعية يزيدان فجوة رقمية أو يقللانها.
السؤال لم يعد هل توجد مؤشرات في العالم أم لا. المؤشرات موجودة. بعضها على مستوى الحكومات الرقمية مثل GTMI. وبعضها على مستوى اقتصاد الاتحاد الأوروبي مثل DESI. وبعضها على مستوى التجارة الإلكترونية والأسعار والإنفاق. السؤال الفعلي من زاوية الأردن. هل نقبل بأن تبقى الصورة التي نرى بها اقتصادنا الرقمي مرسومة بأدوات الآخرين أم نبني إطارًا وطنيًا يستفيد من خبراتهم لكنه ينطلق من أسئلتنا نحن.
مؤشر محلي لقياس وتقييم الاقتصاد الرقمي في الأردن يمكن أن يتحول إلى أداة مرجعية للمنطقة أيضًا. إذا صيغ بشفافية ونشرت منهجيته ومصادر بياناته، يمكن لدول عربية أخرى ذات بنية اقتصادية قريبة أن تستلهمه وتكيّفه. لكن البداية يجب أن تكون هنا. في حوار وطني يجمع الحكومة والقطاع الخاص والجامعات ومنصات مثل رقمنة. في قرار واضح بأن زمن الخطاب العام عن الرقمنة انتهى وأن زمن إدارة الرقمنة بالأرقام قد حان.
السؤال المفتوح بعد كل هذا ليس سؤالًا تقنيًا. سؤال سياسي وإداري. من يملك هذا المؤشر. من يموّله. من يضمن استقلاليته. ومتى تبدأ الدولة بجمع البيانات وبناء المؤشر بدل الاكتفاء بذكر الاقتصاد الرقمي في الخطب والوثائق الاستراتيجية. هذه الأسئلة هي الاختبار الحقيقي لجدية أي حديث عن تحول رقمي في الأردن.
*خبير في مجال الاعمال الالكتروني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى