
رقمنة
لم يعد حضور الأطفال على منصات التواصل الاجتماعي أمرا عابرا، انما يستحق الوقوف عنده ومعرفة أبعاده النفسية وتأثيره الاجتماعي الكبير.
يأتي ذلك بعد القرار الذي اتخذته السلطات الأسترالية بحظر استخدام الأطفال دون سن 16 عاما لوسائل التواصل الاجتماعي، والذي دخل حيز التنفيذ في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2025.
ويشمل القرار منع الأطفال أقل من 16 عاما من إنشاء حسابات على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، في خطوة تعد الأولى من نوعها عالميا، وتهدف إلى حماية من هم دون السادسة عشرة من المتحرشين والمتنمرين الرقميين، والحد من المخاطر النفسية والسلوكية المرتبطة بالاستخدام المبكر والمفرط لهذه المنصات.
أستراليا، كأول دولة تتخذ مثل هذا القرار الجريء، فتحت باب التساؤلات على نطاق واسع: هل يمكن أن تتخذ الأردن خطوة مماثلة لحماية الأطفال من مخاطر الفضاء الرقمي؟ وهل نحن أمام تشريع وقائي أم نقاش مجتمعي مؤجل؟
وفي السياق ذاته، أكدت جمعية شركات تقنية المعلومات والاتصالات “إنتاج” أن الأردن شهد نموا متزايدا في استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي مع بداية العام 2025، ما يعيد طرح السؤال حول جاهزية التشريعات، ودور الأسرة، وحدود التدخل الرسمي في عالم بات جزءا من حياة الأطفال اليومية.
حماية القصر من الاستغلال
ووفقًا للبيانات المتضمنة في التقرير السنوي الصادر عن منصة DataReportal، بلغ عدد مستخدمي الإنترنت 10.7 مليون شخص، مما يعكس نسبة انتشار بلغت 92.5 % من إجمالي عدد السكان، الذين بلغوا 11.6 مليون نسمة في كانون الثاني 2025
ونشرت منظمة الصحة العالمية دراسة استقصائية لعام 2024 أظهرت أن 11 % من المراهقين يصعب عليهم التحكم في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن جهته يبين المستشار الإعلامي والمدرب المتخصص في التسويق والعلاقات العامة، بشير مريش، انه نظريا يمكن للأردن أن تتخذ خطوة مماثلة لخطوة استراليا بينما عمليًا الأمر معقّد ويتطلب مسارًا مختلفًا.
ويوضح مريش ان ما يُتداول إعلاميًا حول القرار الأسترالي يعكس اتجاهًا عالميًا متصاعدًا نحو تشديد الضبط على استخدام الأطفال لمنصات التواصل الاجتماعي، بدافع حماية القُصّر من التحرش والاستغلال والحد من التنمر الرقمي.
إلى جانب تقليل الآثار النفسية السلبية على الأطفال والمراهقين، مبينا أن هذه الخطوة سواء كانت كاملة أو جزئية جاءت في بيئة تشريعية وتقنية تمتلك بنية قانونية رقمية متقدمة وقدرة عالية على فرض الامتثال على الشركات التقنية وأدوات تحقق عمر (Age Verification) أكثر تطورًا.
التحديات التقنية
بينما الواقع الأردني من الإطار القانوني بحسب مريش لا يفتقر إلى القوانين، بل يمتلك قانون الجرائم الإلكترونية وتشريعات حماية الطفل وقوانين الإعلام والاتصال.
ولكن لا يوجد حتى الآن إطار تشريعي متخصص ينظم استخدام الأطفال لمنصات التواصل الاجتماعي بشكل مباشر ومفصل، كما هو الحال في بعض الدول الغربية.
ويشير مريش الى أن التحدي التقني بأن حظر شامل يتطلب أنظمة تحقق عمر دقيقة، وتعاونًا مباشرًا مع منصات عالمية (Meta، TikTok، Google) وقدرة على المتابعة والتنفيذ دون المساس بالخصوصية، وهو تحد كبير لأي دولة نامية، وليس الأردن فقط.
ومن جانب البعد الاجتماعي والثقافي ببين مريش ان وسائل التواصل في الأردن أصبحت جزءًا من التعليم، الترفيه وحتى التواصل العائلي، والأطفال يستخدمونها غالبًا عبر حسابات الأهل، والمنع الكامل قد يؤدي إلى استخدام خفي وغير آمن بدل الاستخدام المنظَّم.
ووفقا لذلك يشير مريش إلى ان السيناريو الأكثر واقعية للأردن بدل الحظر الشامل، من المرجّح “إن حدثت خطوة رسمية” أن تكون على شكل تنظيم لا حظر، وتحديد أعمار لاستخدام بعض المنصات وإلزام المنصات بإعدادات حماية افتراضية للأطفال.
بالاضافة الى تشديد العقوبات على جرائم الاستغلال والتنمر الرقمي وتعزيز دور الأسرة والمدرسة، وترافقها برامج توعية رقمية للأهل وإدخال الثقافة الرقمية الآمنة في المناهج.
تعزيز الحماية النفسية للأطفال
ويذكر مريش ان الأثر المحتمل على الأطفال من هذه الخطوة لها جانب ايجابي محتمل منها تعزيز الحماية النفسية بمعنى تقليل التعرض للتنمر الرقمي، الابتزاز، والمحتوى غير المناسب.
كذلك، خفض الضغط النفسي الناتج عن المقارنات الاجتماعية والإدمان الرقمي، وتحسين التركيز والتفاعل الواقعي وزيادة الوقت المخصص للتعلم، اللعب الحقيقي، والأنشطة الاجتماعية المباشرة، ودعم النمو العاطفي والاجتماعي بعيدًا عن الإيقاع السريع والعنيف للمنصات، وفق مريش.
ايضا، تقليل مخاطر الاستغلال والحد من تواصل الغرباء مع الأطفال، وتقليل فرص الاستدراج الرقمي والتحرش. بينما الآثار سلبية محتملة إذا طُبّق الحظر دون بدائل، منها الاستخدام الخفي وغير الآمن ولجوء الأطفال لاستخدام حسابات وهمية بمعنى زيادة المخاطر بدل تقليلها، وفجوة المهارات الرقمية.
الصعوبة تكمن وفق مريش؛ بأن الأطفال يطورون مهارات رقمية أصبحت أساسية في التعليم والعمل مستقبلًا، في الوقت الذي أصبح فيه تفاوت بين من يملك بدائل تعليمية رقمية ومن لا يملكها، وإضعاف الثقة وشعور الطفل بأن القرار عقابي لا وقائي، ما قد يخلق صدامًا مع الأسرة والمؤسسات.
ويذكر مريش ان المجتمع الأردني كذلك يرى بهذا القرار آثارا إيجابية محتملة منها تعزيز الوعي المجتمعي وفتح نقاش وطني حول سلامة الأطفال الرقمية، ورفع مسؤولية الأهل والمدارس في الإشراف والتوجيه، تقوية الإطار القانوني.
تعرض الأطفال لمحتوى لا يناسبهم
وبدورها بينت خبيرة علم الاجتماع فاديا إبراهيم، أن استخدام الإنترنت بشكل غير منظم قد يؤدي إلى آثار نفسية وسلوكية واضحة لدى الأطفال، فالتعرض المستمر لمحتوى أكبر من أعمارهم قد يخلق ضغوطاً لا داعي لها، مثل مقارنة النفس بالآخرين، أو الشعور بنقص التقدير الذاتي.
وتابعت، كما يواجهوا مضايقات إلكترونية أو تواصلاً مع أشخاص غير مناسبين، وهي مواقف لا يمتلك الطفل الخبرة للتعامل معها.
وتشير إلى أن القدرات العقلية والتركيز بسبب الوقت الطويل أمام الشاشة، تتأثر، مما ينعكس على الأداء الدراسي والنوم والصحة العامة، وبالرغم أن التكنولوجيا ليست شرًا بحد ذاتها، إلا أنها تصبح مؤذية عندما تكون خارج الرقابة والتوجيه.
ووفقاً لذلك تؤكد ابراهيم أن المجتمع الواعي لا يكتفي بالتحذير من المخاطر، بل يبني ثقافة حماية ومسؤولية مشتركة تبدأ هذه الثقافة من الأسرة التي يجب أن تضع قواعد واضحة تحدد ساعات الاستخدام، وطبيعة المواقع المسموح بها، وتراقب المحتوى دون مبالغة أو تقييد خانق.
وفي المدارس، يمكن تضمين التربية الرقمية ضمن المناهج بحسب ابراهيم، وذلك لتعليم الأطفال كيفية التمييز بين المحتوى الآمن والخطر، وكيفية التصرف عند التعرض لمواقف غير مريحة على الإنترنت، منوهة أن دور المجتمع المدني مهم في نشر الوعي.
الحماية الرقمية ليست خيارا بل ضرورة
إلى ذلك، حملات توعوية وورشات عمل للآباء والأمهات، وذلك حتى يعرف الجميع أن الحماية الرقمية ليست خياراً بل ضرورة.
ووفقا لذلك تبين ابراهيم انه مع اتساع التأثير الرقمي على الأجيال الجديدة، يصبح التدخل التشريعي ضرورة وليس مجرد اقتراح، وإصدار الدولة قوانين تحصر أو تنظّم استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لمن هم دون سن السادسة عشرة قد يخلق بيئة أكثر أماناً شبيهة بما فعلته بعض الدول.
وتلفت ابراهيم الى ان هذه القرارات لا تهدف إلى حرمان الأطفال، بل إلى إعطائهم فرصة للنمو دون ضغط المحتوى غير المناسب، ولحماية خصوصيتهم، ولضمان ألا يكونوا هدفاً للإعلانات الموجّهة أو للتواصل غير الآمن، مؤكدة بذلك أنه إذا تم تبني قوانين واضحة تنظم استخدام الإنترنت للأطفال فإن المجتمع سيشهد نقلة نوعية في التربية الرقمية.
وتذكر ابراهيم أن الجيل الجديد سيكبر ويكون أكثر توازناً، بعيداً عن الإفراط في الشاشات وعن المقارنات السلبية، وسيكون أكثر قدرة على التواصل الواقعي مع الأسرة والأصدقاء.
كما ستتحسن قدراتهم على التركيز، وسيعود اللعب الحقيقي والتفاعل الاجتماعي إلى مكانته الطبيعية في حياتهم، وسيصبح الآباء والمعلمون أكثر وعياً بدورهم، وستتناقص حالات التنمر الإلكتروني أو التعرض لمحتوى غير مناسب.
وعلى المدى البعيد سيُفرز المجتمع شباباً أكثر نضجاً ووعياً بحسب ابراهيم، ويمتلكون أساساً قوياً للتعامل مع التكنولوجيا عندما يصلون إلى مرحلة يستطيعون فيها استخدامها بعقلانية واستقلالية، وهكذا يصبح الإنترنت أداة قوة ومعرفة لا مصدر تهديد أو تشويش.
تحديات مجتمعية محتملة
ويذكر مريش أن هنالك تحديات مجتمعية محتملة منها صعوبة التطبيق والرقابة والاعتماد الواسع على الهواتف الذكية، وتفاوت الوعي الرقمي بين الأسر، والعبء عليها. موضحا ان الاهل تحمل مسؤولية أكبر دون تزويدهم بالأدوات أو المعرفة اللازمة، وتفاوت القدرة على المتابعة، التأثير على التعليم والتواصل.
الأثر “الأذكى” الذي يمكن أن يحققه الأردن بحسب مريش، التفكير في أثر تنظيمي ذكي يحقق حماية الطفل دون عزله رقميًا وتنظيم المحتوى دون قمع الوصول وإشراك الأسرة بدل إقصائها.
ووفق مريش فإن ردة الفعل المتوقعة من الاسر والأهالي على هذا القرار من الترحيب الحذر إلى القلق العملي، وهنالك فئة مؤيّدة بقوة، بمعنى أهالٍ قلقون من المحتوى والتنمر والإدمان سيرون القرار كـدعم رسمي لسلطتهم التربوية، سيطالبون بتشديد الرقابة والعقوبات.
وفئة اخرى مترددة تؤيد المبدأ لكن تخشى صعوبة التطبيق وغياب البدائل التعليمية والترفيهية و تحمّل عبء إضافي دون أدوات، بمعنى الأهل سيؤيدون الحماية لكن سيعارضون المنع غير القابل للتطبيق.
بينما ردة الفعل المتوقعة من الاطفال والمراهقين هو رفض صريح أو تحايل ذكي بحسب مريش. موضحا انهم سيعيشون شعور بالإقصاء والعقاب الجماعي و اعتبار القرار “غير عادل”، ولجوء متوقع إلى حسابات وهمية واستخدام حسابات الأهل وتطبيقات بديلة أقل أمانًا وهنا الخطر الحقيقي، فالمنع دون حوار وتمكين قد يزيد المخاطر بدل أن يقللها.
بينما ردة فعل الرأي العام ستشكل انقسام واضح بين تيار مؤيد “حماية أطفالنا أولًا” واستحضار قصص تنمر وابتزاز ومقارنة إيجابية بالتجربة الأسترالية. وتيار معارض بمعنى تخوف من تقييد الحريات وضعف القدرة على التنفيذ وفتح باب رقابة أوسع مستقبلً والإعلام سيحوّل القرار إلى قضية رأي عام ساخنة خصوصًا على منصات التواصل نفسها، وفقا لمريش.
المصدر : صحيفة الغد – رشا كناكرية




