مقالات

الخبير في مجال التقنية وصفي الصفدي يكتب لـ ” رقمنة” : دعوة تأمل …. الوعي في زمن الضجيج الرقمي

رقمنة

*وصفي الصفدي

في زمن تتزاحم فيه الأصوات وتتداخل الحقائق، لم يعد الخطر يتمثل في غياب المعلومة، بل في وفرتها المشتتة. لقد منحتنا التكنولوجيا قدرة غير مسبوقة على الوصول إلى المعرفة، لكنها في المقابل وضعت وعينا أمام امتحان عسير.

نعيش اليوم في عالم رقمي فيه الكثير من السفاهة التي قد تقود لقلة العقل والحكمة لتشكل وقوداً يشعل الجماهير، مع غياب المعلومات الدقيقة دون وعي في كثير من الاحيان، ما ينتج ضيقا في العقول، وعبئاً على الادراك، وجهل يتجدد بأشكال حديثة.

هذه ليست دعوة للتشاؤم، وليست هذه كامل اللوحة ، بل هي دعوة تأمل في كيفية إعادة بناء علاقتنا بالمعرفة في عصر أصبحت فيه الكلمة أقوى من الفعل، والمعلومة أسرع من الفهم.

أولاً: التكنولوجيا كمرآة للوعي الإنساني

لم تخلق التكنولوجيا السفاهة، لكنها كشفتها وأطلقتها في فضاء مفتوح. وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن سوى انعكاس لما نحمله في وعينا الجمعي. فيها تتجاور الفكرة العميقة مع العبثية، ويتحول الرأي إلى حقيقة لأنّه نال تفاعلاً، لا لأنّه يستحق التصديق. وهكذا، يصبح الفضاء الرقمي مرآة لدرجة نضجنا الفكري، لا أداة لتغييره.

في جوهرها، التكنولوجيا ليست خصماً للعقل، بل اختباراً له. فهي تمنح الإنسان الأدوات ذاتها التي يمكن أن تبني وعياً راقياً أو تخلق فوضى فكرية. الفارق يكمن في مستوى الوعي الذي يستخدمها، وفي نوعية المحتوى الذي ننتجه ونتبناه.

ثانياً: المعلومة بين التنوير والتشويش

والمفارقة أن المعلومة التي جاءت لتوسع الإدراك أصبحت في أحيان كثيرة سبباً في تضييقه. في عالمٍ تتسارع فيه الأخبار وتتناسل فيه المصادر، لم تعد المعلومة وسيلة للفهم بقدر ما غدت وسيلة للتشويش. تُستهلك دون تحقق، وتُكرر دون تمعن، حتى فقدت معناها العميق.

الإنسان المعاصر يعيش ويحوطه دفق كبير من البيانات، لكنه قلّما يجد الوقت للتأمل أو السؤال.

يُبنى الرأي في ثوانٍ، وتُطلق الأحكام في لحظات، بينما الحقيقة تحتاج إلى صبر وعقل ناقد. هنا تبرز الحاجة إلى ثقافة تحققٍ جديدة، تُعلّم الإنسان كيف يقرأ، لا فقط ماذا يقرأ، وكيف يميّز بين ما يُغني عقله وما يُغرقه في الوهم.

ثالثاً: الجهل المريح والمعرفة المقلقة

الجهل اليوم لم يعد نقصاً في المعلومات، بل اختياراً للراحة على حساب الإدراك. فالمعرفة تُحمّل صاحبها مسؤولية السؤال والتفكير، بينما الجهل يمنحه راحة الخمول والانقياد. أما العمل، فهو الامتداد الطبيعي للمعرفة، لأنه يحوّل الفكر إلى فعل، والنظرية إلى أثر.

حين يُحتقر العمل ويُختزل العلم في مظاهره، يفقد المجتمع توازنه، ويغيب الرابط بين الفكر والإنتاج. عندها تتشكل دائرة مغلقة: معلومة بلا وعي، وسفاهة بلا حدود، وجهل متزين بثوب الحداثة.

رابعاً: بناء المناعة الفكرية واستعادة الوعي

لا سبيل إلى مواجهة هذا الانحدار إلا بإعادة بناء العقل الجمعي على أسس جديدة من النقد والتفكير الحر. ولبناء مناعة فكرية حقيقية، لا بد من خطوات عملية واضحة:
• تعليم مهارات التفكير النقدي منذ الصغر، حتى يتعلم الإنسان أن يسأل قبل أن يصدق، وأن يتحقق قبل أن يشارك.
• تعزيز ثقافة القراءة العميقة، لتتحول المعلومة من مادة استهلاك إلى أداة فهم وتطوير.
• ربط المعرفة بالعمل، لأن المجتمع الذي يفكر ولا يُطبّق، يظل حبيس الفكرة لا صانعها.
التكنولوجيا يمكن أن تكون مدرسة للوعي، إن وجّهناها نحو التفكير لا الترفيه فقط، ونحو بناء الإنسان لا تسلية الوقت.

خاتمة:

واصبح العالم اليوم ساحة اختبارٍ مفتوحة بين الوعي والسطحية، بين المعلومة التي تنير والمعلومة التي تُربك. العقول تضيق حين يغيب الفكر، والسفاهة تتسع حين نصمت عن التفاهة ونُعيد نشرها.

الرهان الحقيقي ليس في السيطرة على التكنولوجيا، بل في تهذيب استخدامها، وفي بناء عقلٍ يملك القدرة على التمييز. فالمستقبل لا يُصنع بالضجيج، بل بالوعي، ولا يُبنى بالكثرة، بل بالجودة، ولا ينهض بالبيانات، بل بالعقول التي تُحسن قراءتها.
إن استعادة المعنى هي بداية الطريق نحو إنسانٍ يعرف كيف يعيش زمن المعلومة دون أن يُبتلع بها.

* خبير في مجال التقنية والاتصالات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى