
رقمنة
*وليد لطفي
حين نتأمل في مسار الحضارة الحديثة، ندرك أن ما نعيشه اليوم ليس مجرد مرحلة عابرة من تطور التكنولوجيا، بل هو جسر ممتد إلى مستقبل يتشكل أمام أعيننا بخطى متسارعة. الذكاء الاصطناعي ـ ذلك القادم الجديد الذي أصبح جزءًا من تفاصيل حياتنا اليومية ـ لم يكن غايته أن يكتفي بتغيير طرائق تفكيرنا أو أساليب عملنا، بل هو في حقيقته تمهيدٌ ضروري لعصر آخر أكبر وأعمق، عصر الروبوتات المتقدمة.
لقد كان التاريخ دائمًا يعرف مثل هذه المحطات: البخار لم يكن هو القصة الكاملة، بل كان مدخلًا إلى الصناعة الحديثة. الكهرباء لم تقف عند حدود إنارة المدن، بل مهدت لثورة إنتاجية غيّرت وجه الاقتصاد العالمي. والآن، الذكاء الاصطناعي ليس هو “النهاية” في ذاته، وإنما هو “المفتاح” الذي يفتح الأبواب لعصر جديد، حيث تتحول الروبوتات من آلات محدودة الوظيفة، إلى كيانات قادرة على التفكير، التعلم، وربما اتخاذ القرار.
إن القوة الحقيقية للذكاء الاصطناعي ليست في البرمجيات أو الخوارزميات وحدها، بل في أنه يغرس بذور عقل في جسد آلي. هنا يلتقي العقل الاصطناعي بالعضلات الميكانيكية، ويتحوّل ما كان يُرى في الخيال العلمي إلى واقع يمكن أن يغير خريطة القوى الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية في العالم.
العصر المقبل لن يكون سباقًا في تطوير البرمجيات وحدها، بل سباقًا في من يمتلك الروبوتات الأكثر قدرة على العمل، الإنتاج، والحماية. سوف نرى مصانع تُدار بكاملها من جيوش من الروبوتات، ومدنًا ذكية تعتمد على حراس آليين، ومؤسسات تعليمية يتولى التدريس فيها مساعدين رقميين ذوي وجوه معدنية، وربما جيوشًا تتحرك فيها الروبوتات كما كانت تتحرك المدرعات في القرن الماضي.
لكن الخطر ـ كما هو الحال دائمًا ـ أن كل تقدم يحمل معه سؤالًا مقلقًا: من يملك هذه القوة؟ ومن يتحكم في مسارها؟ فالتاريخ يعلّمنا أن من يسبق بخطوة واحدة في امتلاك أدوات العصر، هو الذي يفرض قواعد اللعبة على الآخرين. وفي عالم الغد، لن يكون السلاح وحده أو المال وحده هو الفيصل، بل امتلاك القدرة على دمج الذكاء الاصطناعي بالروبوتات، وتحويلهما معًا إلى قوة إنتاج وتأثير وهيمنة.
إننا اليوم في “البداية” لا في “النهاية”. عصر الذكاء الاصطناعي ليس سوى صفحة تمهيدية، والفصول الكبرى لم تُكتب بعد. وما سيأتي لاحقًا لن يكون مجرد تطور تقني، بل سيكون ـ بكل المقاييس ـ إعادة صياغة لمفهوم العمل، لمفهوم القوة، ولمفهوم الإنسان نفسه أمام آلة تتقدم بخطى متسارعة نحو الشراكة… أو المنافسة.
*باحث متخصص في مجال الذكاء الاصطناعي