مقالات

من الاستراتيجية إلى التنفيذ: حوكمة البيانات في المؤسسات الأردنية

رقمنة
الدكتور أحمد العقيلي

إذا كانت البيانات تمثل اليوم القوة الدافعة للتحول المؤسسي والوطني، فإن ترجمة هذه القوة إلى نتائج ملموسة داخل المؤسسات لا يمكن أن تتم دون أدوار قيادية واضحة وآليات تنفيذ عملية. فنجاح أي استراتيجية وطنية للتحول الرقمي يتوقف على قدرة المؤسسات على استثمار البيانات بفاعلية، وتحويلها من مورد خام إلى قيمة مضافة في الخدمات والسياسات.
في عصر أصبحت فيه البيانات ركيزة لصنع القرار، لم يعد التعامل معها مهمة تقنية فحسب، بل تحول إلى مسؤولية استراتيجية تتطلب قيادة واعية تمتلك القدرة على الجمع بين الرؤية التحليلية والفهم العميق لاحتياجات المؤسسة وأهدافها. وهنا يبرز دور حوكمة البيانات داخل المؤسسات، باعتبارها الإطار الذي يترجم التوجهات الوطنية إلى ممارسات تنفيذية، ويمنح القرارات طابعها المبني على الأدلة والمعطيات الدقيقة.
على المستوى العالمي، تواجه المؤسسات تحديات كبيرة في هذا المجال، تبدأ من البنية التحتية القديمة، مرورًا بالصعوبات المرتبطة بتكامل الأنظمة، وصولًا إلى نزيف الكفاءات بفعل المنافسة الشرسة على الخبرات في مجالات البيانات والذكاء الاصطناعي. هذه التحديات ليست بعيدة عن الأردن، حيث تعاني المؤسسات من ضغوط مشابهة تتعلق بالموارد والميزانيات، إضافة إلى الطموحات العالية لبناء منظومة بيانات وطنية متقدمة. وفي كثير من الأحيان، يجد مدير إدارة البيانات نفسه وكأنه “قبطان سفينة بلا دفة”؛ يمتلك المسؤولية دون السلطة الكافية لاتخاذ القرارات الحاسمة، في ظل تعدد الجهات وتداخل الصلاحيات.
ومع ذلك، فإن الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي 2026–2028 لا تقتصر على وضع توجهات عليا، بل توفر إطارًا عمليًا لترسيخ حوكمة البيانات كأولوية وطنية. فهي تربط بين البنية التحتية الرقمية، والبيئة التشريعية والتنظيمية، والابتكار، والحوكمة الفعّالة للبيانات باعتبارها ركائز متكاملة تعزز قدرة الأردن على إدارة موارده الرقمية بكفاءة. جوهر هذه الحوكمة يتمثل في بناء منظومة وطنية موحدة للبيانات، تتيح التكامل بين الوزارات والمؤسسات، وتمنع الازدواجية، وتضمن أن تكون القرارات الحكومية مبنية على معطيات دقيقة وتحليلات متقدمة. وقد نصت الاستراتيجية بوضوح على مبادئ عملية مثل عدم مطالبة المواطن أو الشركة بتقديم نفس البيانات أكثر من مرة، وتصميم الخدمات لتكون رقمية منذ البداية، وتوفيرها عبر قنوات مترابطة تتمحور حول المستخدم.
وتجسّد بعض المشاريع الوطنية هذا التوجه بشكل عملي؛ على سبيل المثال، يشكل مشروع الهوية الرقمية والتوقيع الرقمي خطوة مركزية في بناء الثقة والخصوصية الرقمية، حيث يمكّن المواطنين من الوصول إلى الخدمات الحكومية الذكية بطريقة آمنة ومتكاملة. كما يمثل نظام الربط البيني الحكومي (government services bus) اداه رئيسيه لتحقيق الربط بين الخدمات و قواعد البيانات الوطنيه المختلفه، بما يدعم اتخاذ القرار المبني على الأدلة، ويعزز كفاءة تقديم الخدمات. في هذا السياق، يصبح مديرو إدارة البيانات في المؤسسات الأردنية ليسوا مجرد منفذين لسياسات داخلية، بل نقاط ارتكاز في المنظومة الوطنية، ومسؤولين عن ضمان جودة البيانات وأمنها وتكاملها مع المستودعات الوطنية.
إن نجاح هذا المسار يعتمد على وعي المؤسسات الأردنية بأنها جزء من منظومة وطنية أشمل، وعلى قدرة مديري البيانات على المواءمة بين التحديات والفرص. وإذا ما تحقق هذا التوازن، فإن حوكمة البيانات لن تكون مجرد إجراء تنظيمي، بل أداة تمكين وطنية تجعل الأردن قادرًا على تقديم خدمات ذكية وموثوقة، وتعزز تنافسيته الإقليمية في ميدان الاقتصاد الرقمي والتحول المؤسسي، في انسجام مع الرؤية الوطنية للتحول الرقمي ورؤى التحديث الثلاث.

* مدير مركز المعلومات الوطني للعلوم والتكنولوجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى