مقالات

المؤسس لشركة ” ميس الورد” نور خريس يكتب لـ ” رقمنة” : إعادة التفكير محليا في الابتكار والريادة …… هل التمويل هو العائق الكبير؟

رقمنة

*نور خريس

خلال لقاء عمل ودي، دار بيني وبين احد العاملين في القطاع حوار تضمن مقارنة عابرة بين شركة ناشئة أوروبية ناجحة وأخرى من الأردن، وخرج الحوار بتساؤل بسيط : هل لدينا بالفعل المواهب أو روح الابتكار لننافس الآخرين؟.

لم تكن هذه أول مرة أسمع فيها مثل هذه المقارنة ، وهي غالبا ما تشي بأن الأردنيين الذين يهاجرون للخارج يحققون نجاحًا أكبر. لكن هذه المرة، أثرت فيّ بشكل مختلف، وجعلتني أفكر بعمق أكثر. 

أرى من واقع خبراتي المتراكمة في الحقيقة أن المواهب الأردنية موجودة؛ ما نفتقر إليه هو البيئة المحيطة التي تساعد تلك المواهب على النمو والازدهار. هذا النقاش ذكرني بمدى أهمية أن ننظر لما وراء المقارنات السطحية ونفهم فعليًا ما الذي يحرك الابتكار في بلدنا.

كلما تحدثنا عن ريادة الاعمال وعن الشركات الناشئة في الأردن، يبدأ النقاش والجدل دائمًا حيال محور التمويل….. نعم، الحصول على رأس المال أمر مهم، لكن اعتباره التحدي الأساسي يجعلنا نغفل عن المشكلات الحقيقية الأعمق التي تعيق الابتكار وريادة الأعمال.

التمويل ضروري في الريادة ، وخلال رحلة بناء وتطوير الشركات الناشئة، لكنه غير كافٍ.

ما تحتاجه الشركات الناشئة حقًا هو منظومة متكاملة تتكون من خلطة تشمل : تتضمن المواهب الماهرة، والبنية التحتية الموثوقة، والتعرض المبكر لبيئات العمل، وثقافة تشجع على المخاطرة والتعاون والنمو.

النظر إلى ما هو أبعد من الواضح: ما ينقصنا ليس المال فقط

في أماكن مثل الخليج أو جنوب شرق آسيا أو بعض أنحاء أوروبا، يعد التمويل مجرد جزء من الصورة. ما يدفع النمو فعليًا هو نظام دعم موثوق: مواصلات تسهّل الوصول للعمل أو المدرسة، خطوط نقل تعمل بدقة، إجراءات تشريعية واضحة وسلسة. والأهم، أن الشباب—منذ المرحلة الثانوية أحيانًا—يحصلون على تجارب ميدانية مبكرة في أماكن العمل.

ان هذا الأمر مهم لأنه يساعدهم على فهم إيقاع ومتطلبات بيئة العمل المهنية: الالتزام بالمواعيد، التعاون مع فرق متنوعة، تحمل المسؤوليات، وملاحظة كيفية اتخاذ القرارات فعليًا. هذا لا يبني المهارات التقنية فقط بل ينشئ وعيًا مهنيًا وعادات تواصل وثقة بالنفس—وكلها ضرورية للانتقال من التعليم إلى سوق العمل.

في الأردن، بعض البرامج موجودة وأخرى تظهر تدريجيًا، لكنها غالبًا متفرقة أو محدودة النطاق. الإمكانيات موجودة، وهنا يأتي دور رؤية التحديث الاقتصادي 2033 التي خضنا قبل نحو شهرين جولة ثانية من النقاشات بشأنها لتحديثها وتطويرها.

الرؤية تتيح فرصة لربط الجهود القائمة وبناء ما ينقصنا. سواء بتوسيع برامج التدريب العملي (الانترن شب)، أو الشراكة مع المدارس، أو تعزيز مشاركة القطاع الخاص بشكل منهجي أكثر، يجب أن ننتقل من أمثلة فردية إلى مسار واضح ومتاح للجميع.

التدريب العملي، المشاريع التطبيقية، والإرشاد المهني تساعد الطلاب على فهم كيفية اتخاذ القرارات، وآلية عمل الشركات، وكيفية العمل ضمن فرق. هكذا تُصقل المواهب الجاهزة للمستقبل. ومع تغير سوق العمل بفعل الذكاء الاصطناعي والأتمتة، يصبح خلق مساحات تعاونية—في المدارس والمختبرات والأستوديوهات والشركات الناشئة—أمرًا أساسيًا وليس خيارًا.

البنية التحتية تعني أكثر من الإنترنت والأجهزة: 

عندما نقول “بنية تحتية”، يجب أن نفكر بشكل أوسع. يشمل ذلك:

  • أنظمة تربط الشباب بالفرص بشكل موثوق
  • مسارات واضحة من التعليم إلى التوظيف
  • إرشاد مهني وفعاليات ومجتمعات تشعل الأفكار
  • برامج مدرسية تكافئ الفضول والإبداع وحل المشكلات

حتى مع وجود التمويل، قد تفشل الشركة الناشئة إذا لم يكن محيطها داعمًا للنمو. فالمواهب كالأموال تحتاج إلى أنظمة تتحرك وتنمو ضمنها.

احتضان عقلية النمو

مع استمرار تنفيذ برنامج “ماينكرافت للتعليم” في الأردن—خاصة بالتعاون مع مشروع الشباب والتكنولوجيا والوظائف—نرى عن كثب الأثر الكبير حين يبني الطلاب والمعلمون معًا، ليس فقط بأدوات رقمية ولكن بهدف مشترك. في 28 أغسطس سنشهد نتائج هذه الرحلة خلال فعالية العرض النهائي. الأمر لا يتعلق فقط بإدخال أداة جديدة مثل “ماينكرافت للتعليم”، بل يكمن الأثر الحقيقي في المنهجية التي تتشكل عندما نتيح للمعلمين والطلاب حرية التفكير المختلف والتعاون الإبداعي وتطبيق عقلية النمو. ماينكرافت تفتح الباب، لكن الطريقة التي نعبر بها—بالفضول والتعاون—هي ما يصنع الفارق.

فكرة عقلية النمو التي طورتها عالمة النفس كارول دويك بسيطة لكنها قوية: الموهبة ليست ثابتة. بل تنمو بالمثابرة والاستراتيجيات الجيدة والدعم المناسب. عندما نقدم هذا التفكير مبكرًا في التعليم، يتغير كل شيء.

بدل التركيز على أحدث الأدوات التقنية، يجب أن نركز على الطريقة التي نعلّم بها:

  • العقلية قبل الأسلوب: التشجيع على المثابرة والفضول والمرونة
  • استخدام التقنية بهدف: التكنولوجيا وسيلة لتحقيق أهداف التعلم وليست غاية
  • أثر المعلم: يقود المعلمون بالقدوة عندما يقدمون تغذية راجعة بناءة ويبرزون أهمية الجهد ويعتبرون الأخطاء جزءًا من التعلم

بناء الفصول الدراسية حول هذه القيم يساعد الطلاب على المخاطرة والتكيف والنمو.

جزء آخر مهم وغالبًا ما يُغفل هو دور آليات التغذية الراجعة وتحديد الأهداف. التشجيع وحده لا يكفي—يستفيد الطلاب (والمعلمون) من طرق منظمة لقياس التقدم والتأمل فيه. تحديد أهداف  (محددة وقابلة للقياس وقابلة للتحقيق وذات صلة ومحددة بزمن) يساعد في تقسيم التطوير طويل الأمد إلى خطوات قابلة للتحقيق. وعندما تُقرن بجلسات متابعة منتظمة أو جلسات إرشاد مهني، تخلق إيقاع تعلم يحافظ على الدافعية ويحدد الاتجاه بوضوح.

وبالمثل، لا يمكن تجاهل قيمة “الممارسة الهادفة”. دانيال كويل يسميها “الممارسة العميقة”—ذلك النوع من التعلم الذي يحدث عندما يقسم الفرد المهام إلى أجزاء صغيرة ويجتهد في كل جزء ويكرر التحسين بالتكرار. سواء كان طالبًا يستعد لعرض تقديمي أو رائد أعمال شاب يجرب منتجًا أوليًا مرارًا وتكرارًا؛ البيئات التي تتيح هذا النوع من الممارسة المنظمة تؤدي إلى نتائج أكثر عمقًا وفاعلية. كلما آمنوا بإمكانية تطوير قدراتهم، زادت ثقتهم بأنفسهم وكفاءتهم.

معتقدات المعلمين تهم أيضًا. عندما يرى المعلمون الذكاء كشيء قابل للتطور، يميل طلابهم إلى تبني هذا الاعتقاد مما يحسن الدافعية والأداء. أما إذا اعتقدوا أن القدرات ثابتة فقد يحد ذلك من تقدم الطلاب خاصة من يواجهون صعوبات أصلاً.

التعلم من الآخرين: تجربة مدارس KIPP

خلال بحثي عن كيفية تأثير بيئة التعلم على المواهب—وهو أمر أعمل عليه منذ فترة ضمن برامج مثل تحدي التطبيقات وبرنامج ماينكرافت للتعليم—لفتني نموذج مدارس KIPP (برنامج المعرفة قوة) في الولايات المتحدة.

هذه المدارس العامة المستقلة المصممة لخدمة المجتمعات الأقل حظاً تركز ليس فقط على التحصيل الأكاديمي بل أيضاً على تطوير الشخصية وزرع عقلية النمو لدى الطلبة. مستلهمة من أعمال كارول دويك وأنجيلا دكوورث، تعترف مدارس KIPP بجهد الطلاب وإصرارهم وليس فقط درجاتهم. وقد أثبتت النتائج جدواها: رغم الظروف الاجتماعية الصعبة يتفوق طلاب هذه المدارس باستمرار على المعدلات الوطنية في التخرج ودخول الجامعة.

لا يحتاج الأردن لتكرار نموذج KIPP حرفياً لكن يمكننا الاستفادة من مبادئه:

  • التركيز على قيم مثل الجهد وليس الدرجات فقط
  • تدريب المعلمين على اكتشاف الإمكانات وتنميتها
  • خلق ثقافة مدرسية تكافئ المحاولة وليس النجاح وحده
  • ربط التعلم المدرسي بالخبرة الواقعية

المسؤولية المشتركة: ليست مسؤولية الحكومة وحدها

وزارات مثل التربية والتعليم والشباب والثقافة والاقتصاد الرقمي لها أدوار مهمة. لكنها لا تستطيع العمل وحدها. يجب على القطاع الخاص أن يشارك بفاعلية:

  • فتح فرص التدريب العملي لطلبة المدارس والجامعات
  • المساهمة في تصميم البرامج التدريبية
  • تقديم الإرشاد المهني وزيارات الشركات

حالياً، الكثير من الشركات تقف على الهامش. إذا أردنا قوة عمل مستقبلية قوية فلا بد من تغيير ذلك.

من الرؤية إلى التنفيذ: كيف نجعل 2033 عامًا مفصليًا

رؤية التحديث الاقتصادي للأردن 2033 تمنحنا فرصة ذهبية لإعادة التفكير في كيفية إعداد الشباب للمستقبل. الرؤية تؤكد على الابتكار وخلق فرص العمل، لكن لتحويلها إلى واقع يجب أن يكون الجميع على نفس الخط.

ما الذي يجب علينا فعله؟

  • التأكد من أن التعليم يواكب المهارات المطلوبة فعلياً
  • تحسين الوصول للبنية التحتية للجميع
  • تدريب المعلمين على تطبيق عقلية النمو
  • توفير حوافز للشركات لدعم المواهب الشابة

الأمر ليس مجرد أحلام كبيرة—بل تصميم أنظمة فعالة وقابلة للتطبيق.

بناء ثقافة تحتضن المواهب

البيئة الاجتماعية والعاطفية المحيطة بالمتعلمين لا تقل أهمية عن المنهج نفسه.

لقد أظهرت الأبحاث أن الناس يحققون نتائج أفضل في المدرسة والعمل والحياة عندما يشعرون بالانتماء. سواء كان ذلك في الفصل الدراسي أو مساحات العمل المشتركة أو أي مكان آخر؛ إشارات صغيرة للدعم والشمول والتقدير تحدث فرقاً كبيراً جداً. هذا الإحساس بالانتماء هو محرك قوي للمثابرة والإنجاز.

إذا أراد الأردن المنافسة عالميًا في الاقتصاد الرقمي فلا يمكننا الاعتماد على المال وحده. يجب دمج العقلية والبنية والفرص والعمل الجماعي ضمن التعليم وسوق العمل وثقافة ريادة الأعمال.

ليس الهدف فقط إطلاق شركات ناشئة جديدة؛ بل بناء ثقافة وطنية ترى الموهبة وتنميها وتحتفي بها.

 

قراءات موصى بها

إذا كنت مهتماً بالأفكار المطروحة هنا فإليك كتابين كان لهما تأثير كبير على رؤيتي للموهبة والتعلم:

  • شيفرة الموهبة – دانيال كويل: كيف تبني الممارسة المركزة والتوجيه الذكي بيئات عالية الأداء
  • العقلية – كارول إس دويك: لماذا يؤدي الإيمان بالنمو وليس القدرة الفطرية فقط إلى تحويل التعليم والإنجاز

هذه مجرد تأملاتي الشخصية، وأعلم أن العديد منكم يعملون على تحديات مشابهة في التعليم أو التكنولوجيا أو تطوير الشباب أو ريادة الأعمال. ما الذي نجح في منطقتكم؟ كيف تنمون المواهب ضمن منظومتكم؟ أود سماع آرائكم وتجاربكم.

*المؤسس لشركة ” ميس الورد” المتخصصة في العاب الموبايل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى