مقالات

من بيروقراطية الماضي إلى ذكاء الغد.. إستراتيجية التحول الرقمي

رقمنة 

*الدكتور حمزة العكاليك 

هذه الاستراتيجية ليست وثيقة حكومية روتينية، بل مشروعا وطنيا يضع الإنسان في صميمه. رؤيتها واضحة أردن ممكن رقميا وآمن يوظف تكنولوجيا المستقبل والابتكار، لتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة وتحسين جودة الحياة. جوهر هذه الرؤية أنها لا تكتفي برفع شعارات عامة، بل تعكس مبادئ عملية قابلة للقياس، مثل الخدمات السلسة التي تختصر الإجراءات وتجعلها مترابطة عبر منصات موحدة، والخدمات التي تتمحور حول المواطن لتلبي احتياجاته قبل أي اعتبار بيروقراطي، والخدمات الاستباقية التي تقدم حتى قبل أن يطلبها المواطن، إلى جانب مبدأ رقمي منذ التصميم يقوم على إعادة بناء المنظومة الحكومية بشكل رقمي منذ البداية، بدلا من الاكتفاء برقمنة الإجراءات الورقية.

ومما يجعل هذه الاستراتيجية قابله للتطبيق أنها تنطلق من واقع ملموس وأصول استراتيجية موجودة بالفعل. فهناك إرادة سياسية واضحة مدعومة بتوجيهات ملكية جعلت الرقمنة أولوية وطنية، كما أن الأردن يمتلك بنية تحتية رقمية متقدمة تشمل توسع شبكة الألياف الضوئية، والاستعداد لتغطية وطنية بشبكات الجيل الخامس، إضافة إلى مشروع مركز العقبة الرقمي الذي يتوقع أن يكون أكبر مركز بيانات محايد في المنطقة. هذه الأصول ليست مجرد طموحات، بل دعائم حقيقية تجعل الأردن مؤهلا ليكون جسرا رقميا يربط القارات، ومركزا إقليميا لاستضافة البيانات والخدمات السحابية.

لكن القيمة الحقيقية للتحول الرقمي، تكمن في قدرته على تحويل الأردن من مستهلك للتكنولوجيا إلى منتج للحلول. هنا يمكن استلهام تجربة سنغافورة التي لم تكتف باستخدام الأدوات الرقمية، بل جعلت موظفيها الحكوميين بناة حلول رقمية. الأردن بدوره، قادر على تسخير طاقاته الشابة، التي تشكل أغلبية المجتمع، لتصبح محركا رئيسيا في تصميم وتنفيذ الخدمات الرقمية، وهو ما يفتح الباب أمام ريادة أعمال جديدة وفرص عمل نوعية تتجاوز مجرد التشغيل التقليدي.

وعند مقارنة التجربة الأردنية بتجارب عالمية مثل إستونيا وسنغافورة، تبرز زوايا جديدة للنظر. ففي إستونيا مثلا، مبدأ المرة الواحدة فقط غير العلاقة بين المواطن والدولة، حيث لم يعد المواطن مطالبا بتقديم البيانات نفسها أكثر من مرة في حياته. لو طبقت هذه التجربة في الأردن، فإن المواطن لن يرهق بطلب شهادات متكررة أو وثائق مكررة، بل سيصبح جزءا من منظومة ثقة وشفافية تعزز الشعور بالمواطنة الرقمية. أما سنغافورة، فقد بنت نظاما وطنيا للبيانات قائم على مصادر الحقيقة الواحدة، ما اختصر فترات تبادل البيانات من أشهر إلى أسابيع. مثل هذه الخطوات يمكن أن تمنح الأردن ميزة تنافسية في المنطقة إذا ما استثمرت بشكل صحيح.

والأثر المتوقع للتحول الرقمي يتجاوز تحسين الخدمات الحكومية. اقتصاديا، سيساهم في تعزيز الإنتاجية وخفض التكاليف التشغيلية على المؤسسات العامة والخاصة، كما سيجذب الاستثمارات الأجنبية في قطاعات ناشئة مثل التكنولوجيا المالية والتجارة الإلكترونية. إضافة إلى ذلك، فإنه يفتح المجال أمام تحويل الأردن إلى بيئة حاضنة للشركات الناشئة التي تبحث عن أسواق مستقرة وقوانين واضحة. أما على الصعيد الاجتماعي، فإن التحول الرقمي يعني خدمات صحية وتعليمية أكثر وصولا وعدلا، ويعزز المشاركة المجتمعية عبر أدوات شفافة تتيح للمواطن المجال ليكون جزءاً من صناعة القرار.

لكن، زاوية أخرى تستحق التركيز هي البعد المتعلق بالثقة الاجتماعية. فالتحول الرقمي ليس مجرد تحديث إداري، بل وسيلة لإعادة بناء جسور الثقة بين الدولة والمواطن. حين ينجز المواطن معاملته خلال دقائق بشفافية ومن دون معاناة، فإنه يشعر أن الدولة قريبة منه وليست عبئا عليه. هذا الشعور يعزز الثقة بالمؤسسات ويخلق علاقة جديدة أكثر إيجابية بين الحاكم والمحكوم.

إن الاستراتيجية الأردنية للتحول الرقمي ليست نهاية الطريق، بل بداية رحلة طويلة. هي دعوة للجميع: الحكومة التي عليها أن تعيد هندسة خدماتها، القطاع الخاص الذي يفترض أن يستثمر ويبتكر، والمواطن الذي سيكون المستفيد الأول والشريك الحقيقي في هذه التحولات. فاليوم يمتلك الأردن الإرادة السياسية، البنية التحتية المتطورة، والموقع الجغرافي الاستراتيجي. وما بقي هو أن يتحول هذا الطموح إلى إنجازات ملموسة على أرض الواقع.

فالتحول الرقمي ليس رفاهية، بل خيارا وجوديا لمستقبل الأردن. من لا يلتحق بهذه الرحلة اليوم قد يجد نفسه خارج سباق الغد. والفرصة أمامنا أن نصنع قصة نجاح أردنية لا تروى فقط في المؤتمرات الرسمية، بل تعاش في تفاصيل الحياة اليومية لكل مواطن، من تجديد جواز السفر إلى الحصول على علاج أو تعليم أفضل. إنها لحظة تاريخية لصناعة المستقبل، وفرصة لا ينبغي أن نفقدها.

المصدر : الغد

*خبير التقنية وعلوم البيانات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى