مقالات

الخبير الإستراتيجي والتطوير المؤسسي محمد صالح يكتب لـ ” رقمنة” …..مآلات انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعي

رقمنة

*محمد صالح

لن أنكر أنني من معجبي ثورة الذكاء الاصطناعي والدائرين في فلكه في محاولة لفهم كنهه ومستقره، وعليه تقودني النقاشات حوله لدهاليز طبيعته الاقتصادية ومصيره السياسي والاجتماعي. ففي الفترة الأخيرة تضاعفت الاستثمارات في هذا المجال إلى مستويات غير مسبوقة، وتحوّلت الشركات الناشئة التي لم تحقق بعد نموذجًا ربحيًا مستدامًا إلى كيانات تُقدّر قيمتها بمليارات الدولارات بينما يتسابق المستثمرون على إغداق الأموال عليها بلا حساب. فعلى سبيل المثال قدرت قيمة أوبن أيه أي (OpenAI) في شهر آذار من هذا العام ب 300 مليار دولار، لترتفع هذا الشهر إلى 500 مليار دولار في رقم لم تصله بهذه السرعة أي شركة ناشئة في التاريخ. هذا المشهد يثير سؤالًا مشروعًا هل نعيش فعلًا في فقاعة ذكاء اصطناعي، أم أنّ ما يحدث هو استثمار طويل الأمد في بنية تحتية ستغيّر شكل العالم كما فعل المحرك البخاري والكهرباء والإنترنت في السابق؟

لفهم هذا السياق من المفيد دراسة حالة شركة (OpenAI) والتي هي شركة خاصة، وبالتالي قيمتها السوقية البالغة 500 مليار دولار ليس بالضرورة أن تكون حقيقية مثل الشركات العامة في البورصة، بل هي مجرد قيمة تقديرية مبنية على صفقات بيع أسهم محدودة بين مستثمرين كبار، وتعتمد بشكل أساسي على التوقعات الضخمة لنمو الشركة في المستقبل وليس على أرباحها الحالية، وبما أن هذه الصفقات لا تُتاح لعامة الناس، فإن هذه القيمة تعكس ثقة المستثمرين في الشركة ولكنها ليست قيمة حقيقية يمكن تداولها في السوق، ويزيد في تعقيد الأمور الهيكل الهجين للشركة الذي يجمع ما بين منظمة غير ربحية في الإدارة وذراع استثماري ضخم لتمويل أبحاثها المكلفة جدًا.

وتشترك كثير من الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي مع (OpenAI) في تضخم قيمتها، وإذا أضفنا إليها المؤشرات العديدة الأخرى فإنها تشير  إلى أنّ ما نشهده يشبه إلى حدّ كبير الفقاعات التقنية السابقة، مثل فقاعة الإنترنت مطلع الألفية أو موجة الكريبتو في العقد الماضي. فالتوقعات المفرطة، والتضخم في تقييم الشركات، والسباق المحموم بين عمالقة التقنية لضخ الأموال دون حساب لجني العوائد قصيرة المدى، كلها سمات تتكرر. لكن في الوقت ذاته، لا يمكن إنكار أنّ للذكاء الاصطناعي تطبيقات عملية قائمة بالفعل، سواء في البرمجة أو التصميم أو الأبحاث الطبية أو أتمتة العمليات الصناعية والتشغيلية، الأمر الذي يفرّق هذه الموجة عن أوهام الماضي وقد يمنحها بعض الجدارة الواقعية.

ومع ذلك، فإن حجم الأموال المسكوبة في هذا القطاع لا يخلو من المبالغة. فجزء من الاستثمارات يمكن تبريره إذا نظرنا إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره أساسًا لتحول بنيوي طويل الأمد، غير أنّ الجزء الآخر يبدو أقرب إلى المضاربة المالية، حيث تُبنى القيم السوقية على وعود غير مثبتة أكثر مما تُبنى على عوائد فعلية أو نماذج عمل مستقرة، وهنا يكمن جوهر الفقاعة في التداخل بين القيمة الحقيقية الكامنة في التكنولوجيا وبين الانبهار الجماعي الذي يضخم التوقعات إلى حدود غير واقعية.

لكن ماذا لو انفجرت هذه الفقاعة؟ التاريخ يساعدنا في تقديم صورة متوقعة. ستنهار أسعار العديد من الشركات، وستفلس المشاريع التي لا تملك قاعدة صلبة، في حين سيبقى اللاعبون الكبار القادرون على امتصاص الخسائر وإعادة التموضع. ستتلاشى المشاريع الاستعراضية، ويُعاد تركيز الاستثمارات نحو التطبيقات التي أثبتت قدرتها على تحقيق قيمة ملموسة، وبالـتأكيد سيربح قلة مئات المليارات التي سيخسرها الغالبية. وكما حصل بعد انفجار فقاعة الإنترنت، قد يتحول الذكاء الاصطناعي من كونه وعدًا أسطوريًا إلى كونه أداة عملية متغلغلة في قطاعات متعددة.

غير أنّ الخطر الحقيقي لا يكمن في الانهيار الاقتصادي بحد ذاته، بل في ما قد يرافقه من تحولات سياسية واجتماعية. فاستمرار ضخ المليارات دون ضوابط أو أطر تنظيمية قد يؤدي إلى احتكار التكنولوجيا من قبل قلة من الشركات العملاقة، بحيث تصبح بمثابة حكومات ظل تتحكم بالمعرفة والاقتصاد على حساب المجتمعات. كما أنّ البنية التحتية المطلوبة لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، من كهرباء ومياه وموارد، قد تستهلك إمكانيات هائلة وتفاقم الأزمات في المجتمعات الأكثر هشاشة. والأسوأ من ذلك أنّ هذه الأدوات قد تتحول إلى وسائل مراقبة وقمع وتلاعب سياسي، ما يعمّق الفصل الطبقي الرقمي بين من يملكون التقنية ومن يُحرمون منها.

من هنا يمكن تصور ثلاثة مسارات محتملة لمستقبل فقاعة الذكاء الاصطناعي. الأول متفائل لا يرى الفقاعة أصلًا ويرى فيه أساسًا لثورة إنتاجية تعيد تشكيل الطب والتعليم والطاقة ومختلف القطاعات. والثاني أكثر واقعية يستشرف فقاعة انفجارها قابل للسيطرة وبالتالي يضع الذكاء الاصطناعي في خانة الأداة المتخصصة القوية التي تخدم قطاعات بعينها بعد أن تنحسر المبالغات. أما الثالث فهو الديسوتوبي، حيث يطيح انفجار الفقاعة بالجميع باستثناء العمالقة ويتحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة سلطة واحتكار، تعيد إنتاج إقطاعية رقمية جديدة تحتكرها الشركات الكبرى وتفرض شروطها على الأفراد والدول.

بهذا المعنى، فإن السؤال لم يعد هل نحن في فقاعة أم لا، بل ما هي طبيعة الفقاعة وكيف سينعكس انفجارها على توازن القوى عالميًا. الذكاء الاصطناعي لن يختفي بانهيار الأسواق، لكنه قد يعود إلى حجمه الطبيعي كأداة قوية، بينما يبقى الخطر الأعمق متمثلًا في تركيز السلطة والمعرفة بيد قلة قليلة على حساب الإنسان والمجتمع.

*الخبير الإستراتيجي والتطوير المؤسسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى