مقالات

الذكاء الاصطناعي والشمول المالي: استثمار الجبهة الجديدة

رقمنة

*زياد الرفاعي

كخبير عملت في قطاع MSMEs والشمول المالي لأكثر من ثلاثين عاماً، ما أزال أذكر البدايات عندما دخلت التكنولوجيا إلى عالمنا لأول مرة. فكرة استبدال الدفاتر الورقية بسجلات رقمية، أو حمل النقود في الهاتف بدلاً من الكاش، بدت شبه مستحيلة. كثيرون خافوا أن يضعف ذلك العلاقة الموثوقة بين ضباط القروض والعملاء. آخرون كانوا يخشون الاحتيال، أو يعتقدون أن النساء والرجال في المناطق الريفية لن يقبلوا بشيء لا يرونه أو يلمسونه.

المخاوف كانت حقيقية. في تلك الأيام، كانت الأنظمة تتعطل، الاتصال ضعيف، الجهات التنظيمية مترددة، والعملاء يقاومون. كنا مضطرين لنكسب الثقة خطوة بخطوة – مع الموظفين، ومع المجتمعات، وأحياناً حتى مع أنفسنا.

لكن ما كان يُنظر إليه كتهديد أصبح مع الوقت شريان حياة. المحافظ الإلكترونية، وحلول التكنولوجيا المالية، والخدمات الرقمية انتقلت من كونها تجارب إلى ضروريات يومية. العملاء الذين رفضوا في البداية أصبحوا يعتمدون عليها في معيشتهم. الذي تغير لم يكن التكنولوجيا وحدها، بل طريقة تبنينا لها: بحذر، بمسؤولية، ومع إبقاء الشمول المالي الهدف اليوم، يقف الذكاء الاصطناعي حيث وقفت المحافظ الإلكترونية سابقاً: أفق واعد لكنه غير مؤكد. الفرق أننا نملك خبرة السنوات الماضية. نعرف المخاطر، ونعرف أيضاً أنه إذا أُدير بمسؤولية، فإن ما يبدأ كتحدٍّ قد يصبح القوة التي توسع الفرص لملايين الناس.

الكفاءة والإنتاجية: إنجاز المزيد بموارد أقل

السنوات العشر الماضية من تبني التكنولوجيا المالية والمحافظ الإلكترونية أظهرت لنا ما يمكن أن يحققه التحول الرقمي: تحويلات أسرع، معاملات أكثر أماناً، وصول أكثر مرونة إلى الائتمان والادخار. الذكاء الاصطناعي يبنى على هذه القاعدة.

التقييم الائتماني الآلي، التحقق من هوية العملاء (KYC) بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، والمراقبة المتقدمة للمحافظ، تسمح للمؤسسات بتجاوز حدود الرقمنة التقليدية. التحليلات اللحظية تساعد المديرين على توزيع الموارد بشكل أذكى. أما روبوتات الدردشة والمساعدون الافتراضيون -المدموجون في منصات البنوك الرقمية- فيمدون العملاء بالخدمات في أي وقت ومن أي مكان.
الأهم أن هذه التطورات تنعكس مباشرة على الكفاءة والإنتاجية والتكاليف التشغيلية. إذا استُخدمت بفعالية، يمكن أن تخفض المصاريف التشغيلية بشكل ملموس، وبالتالي تمكّن المؤسسات من تمرير هذه الفوائد للعملاء عبر تخفيض أسعار الفائدة وتقديم خدمات أكثر يسراً. وهنا تتحقق وعود الذكاء الاصطناعي: ليس فقط تسريع العمليات للمؤسسات، بل تحسين النتائج بالعدل والإنصاف لمن نخدمهم.

الوصول إلى العملاء: لقاء الناس في أماكن تواجدهم
بفضل المحافظ الإلكترونية، ومنصات التكنولوجيا المالية، وخدمات مثل CliQ في الأردن والمنطقة، حتى أصغر الأعمال أصبحت اليوم جزءاً من الاقتصاد الرقمي. أصحاب البقالات، التجار في الأسواق، ورواد الأعمال الصغار يستخدمون هذه المنصات بشكل متزايد لإيداع وسحب مدفوعاتهم.
في العام 2024 وحده، نفذ نظام CliQ ما يقارب 84 مليون معاملة، ارتفاعاً من نحو 30 مليون معاملة في العام السابق. قيمة هذه المعاملات تضاعفت لتصل إلى حوالي 17.1 مليار دولار أميركي (12.1 مليار دينار أردني) مقارنة مع 7.2 مليار دولار (5.12 مليار دينار) في 2023. المثير أن متوسط قيمة المعاملة انخفض من 238 دولارا (169 دينارا) إلى 203 دولارات (144 دينارا)، وهو مؤشر واضح على أن النظام يستخدم بشكل متزايد للمدفوعات الصغيرة واليومية. قاعدة المستخدمين ارتفعت بنسبة 41 % خلال عام واحد، من 1.18 مليون إلى 1.67 مليون مستخدم، 64 % منهم تحت عمر الأربعين، و98 % أفراد.

أما على جانب المحافظ الإلكترونية، فقد سجل نظام JoMoPay ما يقارب 57 مليون معاملة في 2024؛ أي أكثر من ضعف 26.6 مليون معاملة في العام السابق. قيمة المعاملات ارتفعت من حوالي 4.4 مليار دولار (3.12 مليار دينار) في 2023 إلى 7.4 مليار دولار (5.23 مليار دينار) في 2024. عمليات الشراء نمت بنسبة 158 % في الحجم و338 % في القيمة، في حين أن التحويلات المالية نمت بنسبة 122 % في الحجم و72 % في القيمة. هذا يمثل تحولاً ملحوظاً نحو الخدمات المالية الرقمية، خاصة بين الشباب والأعمال الصغيرة.

هنا، الذكاء الاصطناعي هو المرحلة الطبيعية التالية. بتحليل هذه البيانات، يمكنه إنشاء ملفات مالية للأعمال، تصميم منتجات ائتمانية شخصية، والتنبؤ بحالات الإعسار المالي قبل وقوعها. ما كان يعتمد على تقدير مبني على الثقة من ضابط القروض، أصبح اليوم مدعوماً بالبيانات الدقيقة – من دون فقدان العلاقة الإنسانية الجوهرية.

نظرة إلى الأمام (2025–2027)، إذا استمرت معدلات النمو بهذا الشكل
• قد يتجاوز عدد مستخدمي CliQ 2.5 مليون مستخدم بحلول 2027، مع أكثر من 150 مليون معاملة سنوياً بقيمة 25 مليار دولار (18 مليار دينار).
• قد يصل مستخدمو المحافظ الإلكترونية إلى أكثر من 100 مليون معاملة سنوياً بحلول 2027، بقيم تتجاوز 12 مليار دولار (8.5 مليار دينار).
• تراجع متوسط قيمة المعاملة يشير إلى أن التمويل الرقمي سيخدم بشكل متزايد المدفوعات اليومية للأسر وذوي الدخل المحدود وأصحاب المشاريع الصغيرة، وليس فقط التحويلات الكبيرة.
برأيي، إذا استمرت هذه الاتجاهات، فإنها لن تغير فقط طريقة تعامل الأردنيين والأعمال الصغيرة، بل ستخلق بصمة رقمية موثوقة تعيد تعريف الوصول إلى التمويل. ما كان يعتمد على الثقة غير الرسمية، سيصبح مدعوماً بسجلات بيانات شفافة حول الدخل والمصروفات. بالنسبة للشمول المالي، هذا بمثابة ثورة ثانية – ثورة يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسرّعها إذا استُخدمت بحكمة.

نحو جيل ثانٍ من الشمول
الوعد الحقيقي للذكاء الاصطناعي ليس في تسريع النماذج القديمة، بل في تمكين جيل ثانٍ من الشمول المالي. تخيل:
• المشاريع الصغيرة والمتوسطة والصغرى: وصول إلى رأس المال العامل مرتبط مباشرة بالمعاملات الإلكترونية، وسجلات المبيعات الرقمية، وبيانات سلاسل التوريد.
• بناء القدرات: تعليم إلكتروني مدعوم بالذكاء الاصطناعي، إرشاد شخصي، ودعم مخصص عبر منصات التكنولوجيا المالية.
• التثقيف المالي والتأمين: أدوات موبايل تفاعلية تبني المهارات المالية تدريجياً، مع تقديم منتجات تأمين مصغرة تُسعّر ديناميكياً وتُحصّل رقمياً.
• القطاع الزراعي: حصول المزارعين الصغار على قروض مبنية على صور الأقمار الاصطناعية، التنبؤات الجوية، وبيانات السوق، تُصرف عبر المحافظ الإلكترونية.
هكذا يتقاطع الذكاء الاصطناعي مع الثورة الصناعية الرابعة: بتحويل الخدمات الرقمية إلى منظومات متكاملة تدمج بين التمويل وسبل العيش والمرونة والفرص.

ما يجب أن نضعه في الاعتبار
من خلال ثلاثة عقود في الميدان، أرى خمسة مبادئ أساسية:
• الثقة أولاً: التكنولوجيا توسع الشمول، لكن الثقة هي التي تحافظ عليه.
• الشفافية: قرارات الذكاء الاصطناعي يجب أن تكون قابلة للتفسير للعملاء والجهات التنظيمية.
• الشراكات: على شركات التكنولوجيا المالية، والمؤسسات المالية الأصغر، والجهات التنظيمية أن تتحرك معاً.
• الأخلاقيات من البداية: التحيز، الخصوصية، والفجوات الرقمية يجب أن تُعالج في السياسات منذ البداية.
• التبني التدريجي: حتى مع انتشار الخدمات الرقمية، يحتاج الأفراد والمؤسسات إلى وقت للتأقلم.

أفق إيجابي
الذكاء الاصطناعي لن يستبدل الجانب الإنساني للتمويل، لكنه قادر على أن يوسعه. بالاعتماد على الخدمات الرقمية والمنصات القائمة -مثل المحافظ الإلكترونية وCliQ- يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعدنا على الوصول للعملاء بشكل أكثر شخصية، وتصميم منتجات أذكى، وبناء أنظمة أقوى وأكثر شمولاً.
التحدي ليس في تبني الذكاء الاصطناعي، بل في كيفية التبني بمسؤولية، مع إبقاء الشمول والثقة في المركز. إذا نجحنا، فلن يكون الشمول المالي مجرد عملية رقمنة، بل إعادة تصور كاملة.
برأيي، بعد أكثر من ثلاثة عقود في هذا المجال، يمثل الذكاء الاصطناعي أعظم فرصة منذ نشأة التمويل الأصغر. ما يجعل هذه اللحظة مختلفة هو أن العملاء أصبحوا أصلاً متصلين رقمياً، ويولدون بيانات حقيقية عبر منصات مثل CliQ وJoMoPay. إذا أحسنا استغلال ذلك بمسؤولية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعيدنا إلى روح الشمول الأصلية – ليس فقط بخدمة المزيد من الناس، بل بخدمتهم بشكل أفضل، بعدالة وشفافية وثقة.

المصدر : صحيفة الغد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى