مقالات

هجرة الشركات الريادية قبل التسجيل

رقمنة

*المحامي عمر فالح الطويل

الخروج بحثا عن سوق اكبر شيء مقبول ، لكن الهجرة للتسجيل في الخارج يعتبر معضلة كبيرة ، حيث تتنامى في الأردن خلال السنوات الأخيرة موجة من الأفكار الريادية والمشاريع الناشئة التي تبرز في قطاعات التكنولوجيا بشكل عام ، وتكنولوجيا المال (Fintech)، الذكاء الاصطناعي بكافة درجاته، التجارة الإلكترونية، والطاقة النظيفة وغيرها من المشاريع المهمة والمواكبة للعالم الحديث ومتطلباته.
ومع ذلك، تختار شريحة واسعة من هذه الشركات تسجيل نفسها خارج الأردن، في بيئات قانونية أكثر مرونة مثل الولايات المتحدة، الإمارات، أو سنغافورة، وحديثا في المملكة المتحدة. والسؤال الجوهري: لماذا يعجز الأردن عن أن يكون الحاضنة القانونية الأولى لشركاته الريادية وما سبب هذه الهجرة في البدايات؟

معضلة الشكل القانوني في الأردن

الشركات الناشئة بشكل عام بحاجة إلى أشكال قانونية مرنة تستوعب طبيعتها الخاصة. ففي الأردن، يبقى الشكل الأكثر انتشاراً وسهولة هو شركة ذات مسؤولية محدودة. غير أنّ هذا النموذج يفتقر إلى خاصية محورية في عالم الاستثمار المغامر: إمكانية إصدار أنواع متعددة من الأسهم.
المستثمرون لا يأتون بصيغة واحدة؛ فهناك مستثمر مالي يريد سهماً عادياً، وهناك مستثمر استراتيجي يبحث عن امتيازات إضافية، وهناك صناديق رأس المال المغامر التي تشترط أسهماً مميزة بحقوق أولوية أو حماية من التصفية. كل هذا غير ممكن في إطار الشركة ذات المسؤولية المحدودة، ما يجعلها قيداً على نمو الريادة بدلاً من أن تكون منصة لانطلاقها.

الشركة المساهمة الخاصة – الفرصة الضائعة

على الصعيد الآخر، نجد أنّ الشركة المساهمة الخاصة هي الشكل القانوني الذي يقترب من النموذج العالمي للريادة. فهي تتيح تعدد فئات الأسهم وتمنح مرونة أكبر في هيكلة الاستثمارات. إلا أنّ المشرّع الأردني وضع شرطاً مالياً صعباً: ألا يقل رأسمالها عن 50,000 دينار أردني.
هذا الرقم، وإن كان منطقياً للشركات التقليدية أو الصناعية، لا يعكس واقع الريادة. فغالبية الشركات الناشئة تبدأ برأس مال متواضع، وغالباً ما يعتمد نجاحها على فكرة مبتكرة وفريق قوي أكثر من اعتماده على وفرة الأموال. وبقاء هذا الشرط يجعل هذا النموذج القانوني شبه مغلق أمام الرياديين، رغم الاصرار عليه في اكثر من لجنة تطوير وسياسات ، وكون الفرصة الضائعة اكبر بكثير مما يحاول حمايته النظام القانوني الأردني ، خصوص إذا ما نظرنا إلى الرقم المتواضع لعدد الشركات من نوع المساهمة الخاصة الحالي المسجل لدى مراقب الشركات ، مقابل الحاجة المتزايدة للشركات الريادية الأردنية البدء من الأردن ومن ثم إلى العالم.

الأثر الاقتصادي للهجرة القانونية

تسجيل الشركات الريادية خارج الأردن ليست مسألة إجرائية فحسب، بل لها انعكاسات مباشرة على الاقتصاد الوطني تتمثل في خسارة الضرائب والرسوم التي يمكن أن تولّدها هذه الشركات إذا بقيت محلياً. وضياع الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى ولايات قضائية أخرى بدلاً من أن تضخ في الاقتصاد الأردنية بالإضافة إلى هجرة العقول الريادية التي ترى في الخارج بيئة أوسع وأكثر تشجيعاً، ما يقلل من فرص الأردن في بناء منظومة متكاملة لريادة الأعمال مما يؤدي إلى إضعاف البيئة المحلية إذ تصبح الشركات المسجلة في الخارج أقل ارتباطاً بالتشريعات الأردنية، وتبقى السوق المحلية مجرد فرع ثانوي بدلاً من أن تكون المركز.
فوفقاً لبيانات حديثة، يوجد في الأردن أكثر من 2,235 شركة ناشئة نشطة، من بينها 380 شركة حصلت على تمويل، رفعت إجمالي الاستثمارات إلى حوالي 2.8 مليار دولار أميركي. ومع ذلك، يشير تقرير صادر عن GIZ إلى أنّ العديد من هذه الشركات، رغم أنها مملوكة لأردنيين وتعمل محلياً، تفضّل تسجيل نفسها رسمياً خارج البلاد، استجابةً لمتطلبات المستثمرين العالميين الذين يشترطون بيئات قانونية أكثر مرونة مثل Delaware أو BVI.
والمحصلة النهائية أنّ الأردن، رغم وجوده كمركز ريادي إقليمي، لم يستحوذ سوى على 4% فقط من إجمالي الاستثمارات الإقليمية في عام 2024، محتلاً المرتبة الخامسة بعد الإمارات والسعودية ومصر وفلسطين.

كيف تعاملت دول أخرى مع المشكلة؟

من المفيد النظر إلى التجارب المقارنة فمثلا في الإمارات استحدثت مناطق حرة مرنة، تسمح بتأسيس الشركات برؤوس أموال رمزية، وتمنحها القدرة على هيكلة أسهمها بما يتناسب مع متطلبات المستثمرين.
كما ذهبت سنغافورة منذ عقود إلى اعتماد نظاماً قانونياً مرناً للشركات الناشئة، مع بوابة إلكترونية متطورة لتسجيل الشركات خلال يوم واحد.
كما أتاحت المملكة المتحدة تأسيس الشركات المساهمة الخاصة برأسمال يبدأ من جنيه إسترليني واحد فقط، مما جعلها بيئة جاذبة لرواد الأعمال عالمياً.

الإصلاح المطلوب في الأردن

الأردن لا يحتاج إلى إعادة اختراع العجلة، بل فقط إلى خطوات عملية بسيطة كتخفيض الحد الأدنى لرأسمال الشركة المساهمة الخاصة إلى 3,000 دينار أردني، وهو رقم أكثر واقعية ويعكس طبيعة الشركات الريادية. وإطلاق نظام إلكتروني متكامل من قبل مراقب الشركات، يتيح للرياديين اختيار النظام الداخلي لشركاتهم بسهولة، وفق نماذج عصرية متوافقة مع أفضل الممارسات العالمية. وطبعا هذا يحتاج إلى تطوير تشريعات الملكية الفكرية وحوكمة الشركات بما يمنح المستثمرين ثقة في البيئة القانونية الأردنية. ولا ننسى اهم جزء والرافد للبيئة الريادية إلا وهي صناديق الاستثمار المحلية ، وذلك لتطوير وتحديث تشريعات تشجع على ضخ رؤوس الأموال في الشركات الناشئة بدلاً من استثمارها خارج البلاد.
إنّ الريادة الأردنية لا ينقصها الذكاء ولا الكفاءات ولا الطموح، لكنها تحتاج إلى إطار قانوني يتماشى مع إيقاع العصر. إبقاء التشريعات بشكلها الحالي يعني أن تبقى الشركات الأردنية الناشئة “ضيوفاً” في بيئات قانونية أجنبية. أما تعديلها ليواكب المعايير العالمية فسيجعل من عمّان مركزاً إقليمياً حقيقياً للابتكار والاستثمار.
الكرة اليوم في ملعب المشرّع وصانع القرار: فإما أن يلتقط
هذه الفرصة، أو أن يستمر نزيف الريادة إلى الخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى