الاقتصاد

الخبير الإستراتيجي والتطوير المؤسسي محمد صالح يكتب لـ ” رقمنة” ….. عن نبوءة سيطرة الآلة في سوق العمل

رقمنة

*محمد صالح

من بشروا بأن الذكاء الاصطناعي سيستبدل وظائف الناس العاديين في بضع سنين يبدو أنهم  لم يفهموا الناس، ولا فهموا معنى الوظائف، ولا حتى استوعبوا طبيعة الذكاء الاصطناعي نفسه. لقد رسموا مشهدًا كارثيًا تهيمن فيه الآلات على السوق، يُقصى فيه العامل البسيط، ويُحال فيه الحرفي إلى المعاش الإجباري، وتُغلق فيه المكاتب وتتلاشى فيها الحاجة إلى العنصر البشري، كما لو أن البشرية على وشك أن تُطوى من سجلات العمل. لكننا في عام 2025، وبعد مرور سنوات على صعود هذه النبوءات، لم نشهد الانقلاب الموعود. نعم، تغيّر الكثير، ولكن ليس بالكيفية التي زعمها الكثير من المتنبئين العجولين.

واقع أسواق العمل اليوم يعكس صورة أكثر تعقيدًا وتمازجًا. الذكاء الاصطناعي لم يجتث الوظائف من جذورها ولا يبدو أنه سيفعل في المدى المنظور على الأقل فهو حتى هذه اللحظة يعيد تشكيلها وهندستها من جديد. فقد شهدنا تأثر بعض المهن الروتينية التي تعتمد على التكرار والتنفيذ دون تدخل بشري عاطفي أو إبداعي، مثل إدخال البيانات، وبعض قنوات خدمة العملاء، ومهام الترجمة النصية البسيطة. فما نراه حتى اللحظة هو مساهمة الذكاء الاصطناعي في أتمتة كثير من الوظائف. وهذا فارق جوهري حيث ان الأتمتة تمس المهام، لا الإنسان نفسه. فهي تخفف العبء، ولا تنقض على الكيان.

بالمقابل المهن التي تعتمد على التفاعل البشري المعقّد لم تشهد تراجعًا، بل على العكس، بعضها شهد ازدهارًا نتيجة زيادة الطلب على ما لا تستطيع الآلة محاكاته: اللمسة الإنسانية، والفطنة الاجتماعية، والحس التربوي، والمواساة العاطفية. الرعاية الصحية، التعليم وخصوصًا الطفولة المبكرة والمهني، الرعاية النفسية، المهن اليدوية والحرفية، الطاقة والبنى التحتية وغيرها، كلها ما زالت قائمة، لأن البشر لا يزالون بحاجة لبشر. حتى في مجالات أكثر حداثة مثل التصميم والترفيه وصناعة المحتوى، برز الذكاء الاصطناعي كمساعد، لا كبديل. وأظهرت دراسة من معهد MIT أن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في الكتابة مثلاً يمكنها أن تحسّن الإنتاجية، لكنها لا تستطيع بمفردها توليد محتوى عالي الجودة دون تدخل بشري لتحسينه وتوجيهه.

ما لم يتأثر بعد، ولربما لن يتأثر على المديين القصير والمتوسط، هو كل ما يمس جوهر الإنسانية في العمل؛ الإبداع، اتخاذ القرار، بناء العلاقات، التفاوض، القيادة، والتعليم التفاعلي. بل إن كثيرًا من أرباب العمل باتوا يضعون في وصف الوظائف المستقبلية شرطًا واضحًا: القدرة على التعامل مع الذكاء الاصطناعي، لا أن يحل أحدهم محل الآخر.

فلماذا إذاً كل هذا التضخيم؟ قد تكون الرغبة في لفت الانتباه وتصدر المشهد أحد الدوافع. بعضهم أراد أن يبدو سبّاقًا للفهم، فبالغ في التوقعات. ولربما ضخّمت بعض الشركات التأثير لتروّج لأدواتها الذكية. وهناك من استخدم هذه الفزاعة لتبرير تقليص العمالة وخفض التكاليف تسريح العمالة الفائضة بعد الجائحة وخصوصًا عمالقة التكنولوجيا، متذرعًا “بما لا يُرد ولا يُصد” من تقنيات المستقبل. إنها موجة وجد فيها كل طرف وسيلته: الباحث عن الشهرة، والباحث عن الربح، والباحث عن مخرج اقتصادي سهل.

لكن الحقيقة الراسخة حتى الآن هي أن الذكاء الاصطناعي حتى اللحظة غير قادر على استبدال الإنسان، بل قد يستبدل مستقبلًا الإنسان الذي يرفض أن يتطور. فالمعادلة الجديدة ليست بالضرورة أن تكون معركة بين البشر والآلات، بل بين البشر الذين يصممون على التعلم والتكيّف، وأولئك الذين يتمسكون بثبات زائف في عالم متغير. لم يعد كافيًا أن نتقن ما تعلمناه بالأمس؛ لا بد أن نعيد صياغة علاقتنا مع أدوات اليوم، وأن نتسلح بفضول لا يهدأ، وبعقل نقدي لا يخضع، وبتواضع يعترف أن الآلة أداة، لا تهديدًا. فالإنسان الذي يُجيد فهم الآلة وتطويعها، سيبقى مركز الاقتصاد والمعنى، مهما علت ضجة الخوارزميات.

*خبير في الاستراتيججيات والتطوير المؤسسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى