
رقمنة
في ظل التحديات المتصاعدة التي يواجهها الدولار الأميركي، تتحرك الصين بسرعة لتسريع تنفيذ استراتيجيتها طويلة الأمد الرامية إلى تقليص الاعتماد العالمي على العملة الأميركية. ويأتي توقيت هذه الخطوة الصينية لافتًا، إذ يرى صانعو السياسات في بكين أن التذبذب في قرارات واشنطن وتصاعد التوترات الجيوسياسية يشكلان فرصة نادرة لدفع اليوان إلى مقدمة النظام المالي العالمي.
وتسعى بكين من خلال هذه الخطوات إلى تدويل اليوان، بما يعيد تشكيل قواعد التجارة والتمويل العالمية، ويحد من هيمنة الدولار الأميركي في محافظ الاحتياطيات الرسمية حول العالم.
وفي خطاب ألقاه مؤخرًا، كشف محافظ البنك المركزي الصيني، بان قونغشنغ، عن رؤية لنظام نقدي عالمي جديد يكون فيه دور الدولار أقل مركزية، مقابل دور متعاظم لليوان. وأشار إلى أن الصين تعمل على فتح أسواقها المالية بشكل أوسع ليصبح اليوان محورياً في تدفقات رأس المال العالمية.
وضمن هذه الرؤية، يعتزم بنك الشعب الصيني إنشاء مركز دولي لعمليات اليوان الرقمي في مدينة شنغهاي، في خطوة تعكس طموح بكين لقيادة الابتكار النقدي الرقمي عالمياً. كما يُدرس حالياً إطلاق أول عقود مستقبلية مقومة باليوان، قد تنافس أدوات التحوط المشابهة في بورصات كبرى مثل سنغافورة وشيكاغو.
في هونغ كونغ، تم مؤخرا إطلاق نظام دفع سريع يُتيح للمقيمين تحويل الأموال باليوان أو بدولار هونغ كونغ إلى البر الرئيسي للصين، لأغراض تجارية وخدمية. ويُتوقع قريباً إضافة قنوات تداول مقومة باليوان ضمن برنامج “رابط الأسهم” بين هونغ كونغ والبر الرئيسي، ما يُعزز تكامل السوقين.
كذلك، هناك تحركات لربط اليوان بالعملات المشفرة، إذ صرح وزير الخدمات المالية والخزانة في هونغ كونغ، كريستوفر هوي، بأنه لا يستبعد ربط العملات المستقرة باليوان مستقبلاً، مع التأكيد على ضرورة مراعاة عوامل المخاطر وتقلبات سعر الصرف والسياسات النقدية. تأتي هذه التصريحات بالتزامن مع تشريع أميركي جديد حول العملات المستقرة، واعتماد هونغ كونغ لإطار تنظيمي خاص بها.
تخطط السلطات الصينية هذا العام لتسهيل تدفقات رؤوس الأموال بشكل أكبر، من خلال إتاحة مزيد من المنتجات المالية المحلية للمستثمرين الأجانب، وزيادة الحصص المخصصة للمقيمين للاستثمار باليوان في الأوراق المالية الخارجية. كل ذلك يهدف إلى تعزيز تداول العملة الصينية على الساحة الدولية.
ورغم أن اليوان لا يزال يشكل فقط نحو 2.2% من احتياطيات العملات العالمية، فإن مكانته في التجارة الخارجية الصينية في تصاعد لافت. فقد بلغت تسويات اليوان 26% من تجارة السلع في أيار/مايو الماضي، ويُتوقع أن ترتفع إلى 40% مع نهاية العام.
في المقابل، تسعى بكين بقيادة الرئيس شي جين بينغ لترسيخ موقع اليوان كمنافس حقيقي للدولار، ضمن جهود الصين لبناء قوة مالية عالمية قادرة على لعب دور أكبر في التجارة الدولية، خصوصاً في ظل التوترات المتزايدة مع واشنطن.
ورغم الطموح الكبير، تواجه الصين تحديات اقتصادية ملموسة. فالتباطؤ الاقتصادي، وضغوط الانكماش، وتراجع العوائد على السندات، كلها عوامل قد تعيق جهود تدويل اليوان. فالاستخدام الدولي الواسع لأي عملة يعتمد بالأساس على قوة الاقتصاد الذي يقف خلفها، وعلى استقرار السياسات النقدية وتحرير حركة رؤوس الأموال.
وتسعى الصين، بخطى متسارعة ومدروسة، إلى كسر هيمنة الدولار الأميركي وإعادة تشكيل النظام المالي العالمي عبر تدويل اليوان. وبينما تبدو الظروف الدولية مواتية لهذا التحول، تبقى قدرة بكين على التغلب على التحديات الاقتصادية الداخلية العامل الحاسم في إنجاح هذه الاستراتيجية.
جو يرق، رئيس قسم الأسواق العالمية
جريدة النهار