توجهات الاتصالات الحكومية في عصر التواصل الاجتماعي
رقمنة
الغد – ربى أبو زغد*
تخيل أن تكون في قاعة مفتوحة مليئة بالناس، كل منهم لديه الميكرفون والمنصة الخاصة به. الجميع، بمن فيهم أنت، لديهم المساحة للحديث وإبداء آرائهم حول مختلف المواضيع. لديك رسالة مهمة تريد إيصالها، فهل تختار الحديث وسط الجموع، حيث قد لا يستمع إليك أحد؟ أو تختار الوقت والأسلوب المناسبين لطرح الرسالة؟ وربما أيضًا ستختار مجموعة محددة من هؤلاء الناس لتحدثهم عن رسالتك دونًا عن الآخرين؟.
ويشبه عالم التواصل الاجتماعي هذه القاعة إلى حد كبير، حيث يملك الجميع منصة خاصة للتعبير عن آرائهم وأفكارهم بشكل مفتوح. وبقدر الميزة التي باتت تمنحنا إياها مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن تعقيدات الجماهير واختلاف طبيعتها، من ناحية الخلفية الثقافية، العمر، الموقع الجغرافي، قابليتها للاستماع، وحتى مزاجها اللحظي؛ باتت جميعها عوامل علينا أخذها بعين الاعتبار عند إيصال أي رسالة. والأمر قد يزداد تعقيدًا عندما يتعلق بإيصال رسائل من جهات حكومية للفئة الأكثر نشاطًا على هذه المواقع؛ وهي فئة الشباب.
لا يقتصر هذا الفضاء الإلكتروني على مساحة التعبير، بل إنه يمنح الشباب فرصا للتمكين والقدرة على التغيير، خاصة في ضوء ما نشهده من توظيف الشباب لهذه المنصات، كأدوات محفزة للمواطنة الفاعلة والمشاركة المدنية والمجتمعية والريادية على الأرض. ونحن لسنا بعيدين عن تأثير مواقع التواصل الاجتماعي في رفع الوعي العالمي حول ما يحدث في غزة، والحشد للحركة الطلابية الجامعية الغربية، إلى جانب الحركة المستمرة المناهضة للعنصرية ضد السود “Black Lives Matter”، التي تم تداولها عبر 44 مليون تغريدة على موقع “X” على مدى عشر سنوات حتى آذار(مارس) العام الماضي، بحسب مركز Pew للأبحاث، وغيرها من الأمثلة على مبادرات تطوعية محلية أطلقها شباب من منصاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لتصبح مبادرات مستدامة الأثر على أرض الواقع.
بحسب استطلاع رأي الشباب العربي للعام الماضي، فإن غالبية الشباب العربي يعكسون “عدم ثقتهم” في قدرة حكوماتهم على معالجة قضايا مثل البطالة، (55 % عبروا عن عدم ثقتهم)، وارتفاع أسعار المعيشة (54 %)، وتفاوت الدخل (51 %)، وغيرها من القضايا الملحة مثل التغير المناخي (47 %)، وإصلاح التعليم (40 %)، وخطر الإرهاب (38 %). في الوقت نفسه، فإن تسعة من كل عشرة شباب يستخدمون منصة واحدة على الأقل من وسائل التواصل الاجتماعي للتحدث والوصول إلى المعلومات ومشاركة المحتوى، بحسب الاستطلاع ذاته للعام 2019.
بالنظر إلى هذه الأرقام، فإن هذه الفئة من الجمهور – الشباب – لها خصوصيتها وتعقيداتها التي يجب النظر إليها ودراستها بشكل معمق عند تحديد استراتيجيات الاتصالات والإعلام بالنسبة للصفحات الحكومية الرسمية في العالم العربي عمومًا، وفي السياق الأردني المحلي على وجه التحديد. والهدف من ذلك؛ أولا، صياغة رسائل ملائمة تحقق المصلحة المطلوبة وتتناسب في الوقت ذاته مع طريقة استخدام الشباب لمواقع التواصل الاجتماعي ونوعية استهلاكهم للمحتوى وقدرتهم على الحكم والتمييز؛ ثانيًا، فتح المجال “للتفاعل الإنساني” المسؤول والشفاف والإيجابي والمستجيب لتطلعاتهم؛ ثالثًا، تعزيز جسور الثقة من وراء الشاشات – والتي بلا شك لا بد من أن تتوازى مع الممارسات والتوجهات الحكومية على الأرض.
من هنا، تكمن أهمية تعزيز قدرات الفرق العاملة في مجال الاتصالات والإعلام والعلاقات العامة في مختلف الجهات الحكومية ليكونوا قادرين عن بناء هوية رقمية موثوقة ومستجيبة لتطلعات جمهورها من مختلف الفئات. خلال الأشهر الماضية، كانت هيئة أجيال السلام، أطلقت برنامجًا يحمل اسم “ثقة”. يستمد البرنامج، المدعوم من منظمة بورتيكاس الهولندية، رسالته من اسمه، إذ يهدف إلى تعزيز المشاركة المدنية الشبابية من خلال توفير مساحة للحوار التحويلي بين مجموعة من مسؤولي البلديات والقادة الشباب، من أجل تحفيز المشاركة في صنع القرار والاستجابة لأولويات المجتمع وتطلعات الشباب.
يضم البرنامج مكونات مختلفة تصب جميعها في هدف واحد؛ هو بناء جسور الثقة بين الشباب والمسؤولين الحكوميين. إذ يشمل جلسات حول الحوار التحويلي، وتدريبات صياغة أوراق السياسات والبحوث وتحديد الأولويات التنموية، وتدريبات للاتصالات الاستراتيجية الرقمية لمسؤولي البلديات.
وكجزء من البرنامج، قاد معهد هيئة أجيال السلام المختص بالبحوث تحليلا لمحتوى صفحتي “فيسبوك” الرسميتين للبلديتين المشاركتين في البرنامج؛ بلديتي السلط والكرك، لتقييم التواصل الحالي ودعمه ليكون نموذج تواصل قائم على بناء الثقة. وقد تمت دراسة محتوى مجموعة مختارة من المنشورات وفقًا لعناصر الاتصال القائم على بناء الثقة: المصداقية والشفافية، والاستجابة، واللغة والنبرة، والمشاركة، ووفقًا لتعبيرات الثقة أو عدمها الواردة في تفاعل وتعليقات الجمهور على المنشورات.
وبناء على نتائج التحليل، تم عقد تدريب الاتصالات الاستراتيجية الرقمية في أواخر شهر نيسان(أبريل) الماضي، بحضور نخبة من موظفات وموظفي البلديتين المختصين بمجال الاتصالات والإعلام وتكنولوجيا المعلومات. شمل التدريب، جانبين رئيسيين: اتصالات إدارة الأزمات والاتصالات الشاملة التي تدمج مختلف فئات المجتمع، وتقنيات وتطبيقات لتطوير المحتوى الإبداعي والعصري لصفحات التواصل الاجتماعي. بعد استعراض نتائج التحليل معهم، حضر المشاركات والمشاركون التدريب الذي امتد لخمسة أيام، وقد شمل تطبيقًا عمليًا لطرق وأدوات تحسين الاتصالات الرقمية الحالية. تم تدريبهم على كيفية تصميم المنشورات، والتقاط الصور، وإنتاج الفيديوهات القصيرة، ووضع خطط للطوارئ والأزمات، وتصميم الهوية الرقمية الإيجابية، وتحليل التفاعل مع المنشورات.
يقول إبراهيم الضمور من قسم العلاقات العامة في بلدية الكرك: “إن التدريب كان مثريًا وفيه من المعلومات ما يحمس الفريق للتطوير والتقدم واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي من أجل بناء الثقة مع الجمهور المحلي”. “برنامج ثقة بشكل عام يوفر المساحة للالتقاء مع الشباب وبناء جسور التواصل المستمر معهم، ما يعني أنهم سيرون بشكل مباشر الإنجازات التي تقوم بها البلدية، والتحديات التي تواجهها. ما تعلمناه في هذه الدورة سيساعدنا في تعزيز فرص التشبيك والتعاون مع الشباب، وبالتالي سنكون أكثر قدرة على بناء الثقة معهم”.
من جانبها قالت صفاء الحياري، من قسم الحاسوب في بلدية السلط: “إن التدريب كان توعويًا وتعليميًا وإن المهارات المكتسبة ستنعكس بشكل مباشر على المنصات الرقمية للبلدية”، مشيرة إلى أن “التحول الرقمي توجه أساسي بالنسبة للمؤسسات الحكومية، ويجب أن تنعكس جميع الرسائل والأفكار والمعلومات إلى شكلها الرقمي الذي يلبي توقعات المتلقي”.
وبينما يجب أن تتماشى توجهات فرق إعلام البلديات مع السياسة العامة للإعلام والاتصال الحكومي الصادرة عن وزارة الإعلام الحكومي، تبقى هناك حاجة مستمرة للتطوير والبناء على الخبرات والمهارات لمواكبة توجهات الجمهور المحلي، في الوقت الذي تحقق فيه الجهة الحكومية خططها واستراتيجياتها الإعلامية المرتبطة بشكل وثيق مع سياساتها العامة ورؤيتها وبرامجها التنفيذية.
يقول أنس ضمرة، خبير الاتصالات الاستراتيجية، والذي كان أحد ميسري التدريب: “الاتصال الاستراتيجي مهم سواء للقطاع العام أو الخاص وهو الخريطة والنبرة واللغة وهوية الخطاب، وهو الصورة الذي تعكسها المؤسسة عن نفسها”. بالنسبة للبلديات، هناك إلحاح يومي على وجود خطة تواصل تعكس الإنجازات الحقيقة وتجيب عن تساؤلات الأفراد. من خلال الاتصال الاستراتيجي نقدم تدخلات معرفية ونبني توجهات تعديل السلوكيات، ويصبح أفراد المجتمع والبلدية على خطين متقابلين من ناحية مشاركة المعلومة”.
هناك مجموعة من التوصيات العامة التي يمكن أخذها بعين الاعتبار، لاتباع استراتيجية اتصال قائمة على مبادئ بناء الثقة مع جمهور الشباب، ويمكن تلخيصها في ما يأتي: التركيز على تحويل شعور الشباب من متلقين إلى مشاركين ومساهمين قادرين على التفاعل، التحقق والتأكد من المعلومات قبل نشرها؛ استخدام العامل الإنساني – الصور والفيديوهات – القريب الذي يشبه الجمهور؛ استخدام لغة دامجة لجميع فئات المجتمع؛ اعتماد أشكال مختلفة للمحتوى؛ الاطلاع المستمر على ممارسات وتوجهات الأفراد وحساسية السياق في الفضاء الإلكتروني وتقييم مدى استعدادهم لتلقي رسائل معينة دونا عن غيرها؛ الربط الوثيق بين استراتيجية الاتصالات والخطط التنفيذية للبلدية؛ قابلية التعديل والتبديل المدروس في الاستراتيجية بما يتناسب مع التغييرات الخارجية؛ اختيار ممثلين إعلاميين لديهم الكفاءة والمعرفة والتاريخ المؤسسي الشامل، الذي يمكنهم من تمثيل المؤسسات بمهنية عالية.
هذه العوامل مجتمعة، مصحوبة بالاتصال المباشر في الميدان واتباع الممارسات الفضلى لتقديم الخدمات، تبني هوية رقمية حكومية تساهم في “أنسنة” الاتصالات وتجعلها أكثر موثوقية بالنسبة لجمهورها، خاصة بين فئة الشباب.
*مسؤولة اتصالات أولى – هيئة أجيال السلام
التعليقات مغلقة.