من الفيصلية لمنصة التكريم.. وسام الاستقلال لسيدة زرعت العلم بصمت
رقمنة
عمان – في قرية الفيصلية، البعيدة عن مركز محافظة المفرق بنحو ثلاثين كيلومترًا، وبين الحقول الممتدة والمنازل المتناثرة، كتبت امرأة حكاية وطنية بمداد العطاء والإيمان. الحاجة لطيفة سويلم المشاقبة، لم تكن مواطنة تبرعت بقطعة أرض، بل كانت عنوانا لمن يزرع الخير دون انتظار، ويبني مستقبلا لغيره.
من مالها الخاص، ومن تعب أيامها في الفلاحة ورعي الأغنام، أنفقت “تحويشة العمر” لتُشيد مدرسة ابتدائية تخدم أطفال قريتها النائية، بعدما كانت أقرب مدرسة تبعد عنهم ستة كيلومترات. لم تطلب مقابلا، ولم تسعَ لذكر، وكانت تقول باطمئنان: “الحمد لله، كل شيء متوفر”… وكأنما العطاء يُغني.
اليوم، باتت مدرسة الفيصلية الأساسية المختلطة تضم 105 طلاب، ويُشرف عليها كادر تربوي مكوّن من عشرة معلمين ومعلمات. صارت المدرسة معلما صغيرا في قرية بسيطة، لكنها محمّلة بدلالات كبيرة عن المعنى الحقيقي للوطن.
في لحظة تلامس عمق الهوية، وتحت ضوء يعكس وجه الأردن الأصيل، جاء تكريم الحاجة لطيفة بوسام الاستقلال من الدرجة الثانية كمن يُنقب في الذاكرة عن جوهر هذه البلاد: الكرم، الانتماء، والعطاء الممتد من القلب.
في قصر الحسينية، وقفت الحاجة لطيفة بلباسها البدوي المطرز بالحكايا: الشمبر، المدرّقة، والعصبة الحمراء. كانت تمثل الأردن كما هو؛ كما عرفناه في بيوت الجدات، ومجالس البوادي، وحديث السمر.
تطوير التعليم في المناطق النائية
وفي تصريح خاص لـ “الغد”، قال مدير تربية لواء قصبة المفرق الدكتور أيوب المشاقبة “تلقينا نبأ التكريم الملكي للحاجة لطيفة بكل اعتزاز وفخر، وشعرنا أن هذا التكريم هو تكريم لمديرية التربية والتعليم، ولكل تربوي، معلم، وطالب على امتداد الوطن. حين وصلنا الخبر، شعرنا بالاعتزاز لكل من ساهم في بناء مدرسة أو غرفة صفية ودعم العملية التعليمية.
وأضاف أن ما حصل مع الحاجة لطيفة، أعاد إلى الأذهان قيم العطاء التي كانت سائدة في السبعينيات والثمانينيات، عندما كان الآباء يزورون المدارس ويتبرعون ببناء الغرف الصفية، وينقلون المعلمين إلى القرى النائية بسياراتهم الخاصة. هذه الروح الأصيلة أعادتها الحاجة لطيفة إلى مجتمعنا.
وتابع المشاقبة أن الفيصلية منذ سنوات، كانت تفتقر إلى رياض الأطفال، ومستوى الطلاب في الصف الأول كان متدنيا بسبب بعد الروضة عن القرية وقلة وسائل النقل. لكن بعد بناء الحاجة لطيفة لهذه المدرسة، وبدء تعليم الروضة منذ عامين، تحسن المستوى التعليمي بشكل ملحوظ، وظهر تفاعل مميز لدى الطلاب، وقد لاحظ ذلك دولة رئيس الوزراء خلال زيارته.
اليوم، أصبحت المدرسة جاذبة للهيئة التدريسية، وتم رفعها من الصف السادس إلى الصف السابع، ونعمل على ترقيتها إلى الصف الثامن العام القادم، مما يعزز الاستقرار وزيادة أعداد الطلاب.
ارتفاع العدد إلى أكثر من 115 طالبًا
في مدرسة الفيصلية، ارتفع عدد الطلاب من أقل من مائة إلى أكثر من 115 طالبًا، ويتوقع أن يزيد العدد مع استقرار المستوى التعليمي، كما أن المدرسة مجهزة بغرف صفية حديثة وملعب خماسي، وبنيت غرف إضافية كتبرع، فضلاً عن وصول المواصلات وفتح الشوارع، ما جعلها مثالًا يُحتذى به في قصبة المفرق.
تحتوي المدرسة على مظلة كبيرة تبرعت بها الحاجة لطيفة لحماية الطلاب من حرارة الصيف وبرد الشتاء، بالإضافة إلى وجود تدفئة، الأمر الذي يعزز راحة الطلاب في فصل الشتاء. المدير فيصل، ابن الحاجة لطيفة، يعتني بالمدرسة بهدوء وحب، دون ضجيج أو كاميرات إعلامية، ولم يكن يتوقع أحد أن يزوره دولة رئيس الوزراء والتلفزيون الأردني لتوثيق هذه المبادرة.
يفتخر المشاقبة بالتطور الذي حققته المدرسة، وهو على تواصل مستمر مع فيصل لمساعدته، لتحويل الحلم إلى حقيقة، لافتا الى انه بعد ظهور الحاجة لطيفة في الإعلام، تواصلت العديد من السيدات الأردنيات للتبرع بأراض لبناء مدارس في المناطق النائية، مما يعكس أصالة وروح العطاء الأردني.
ما يميز هذه المبادرة أنها لم تكن بدعم من مصانع أو شركات أو رؤوس أموال، بل من مال الحاجة لطيفة الخاص، وهي بذلك تبني لبنة في بناء الوطن. الوقف التعليمي ومبادرات المتبرعين أصبحت الحل الأمثل لبناء مدارس في المناطق التي يصعب فيها جذب تمويل للمدارس الصغيرة.
اليوم، نشهد حركة جديدة في الوقف التعليمي، حيث يتبرع الأهالي بأراض وغرف صفية، كما في الفيصلية، وهذا يعكس حالة وطنية أصيلة تعيد قيم العطاء التي كانت موجودة قبل عقود، دون انتظار مقابل.
التأثير الإيجابي بالمناطق النائية
هذه المبادرة أثرت إيجابيا على المناطق النائية، وأصبح الأهالي أنفسهم يتوجهون للتبرع، ويتحدثون عن مدارس متعددة الغرف، مما يطور واقع التعليم بشكل ملحوظ. مضيفا “لم نعد ننتظر الدعم الخارجي، بل نبني وطننا بأيدي أبنائه وبناته”.
الحاجة لطيفة لم تخدم الفيصلية فقط، بل أسهمت في تطوير العملية التعليمية على مستوى الوطن، لذلك نشكرها ونسأل الله أن يبارك في جهودها. وهذا ليس الوقف التعليمي الأول في قصبة المفرق، بل سبقته أوقاف أخرى، وهناك بوادر طيبة لأوقاف تعليمية جديدة في مناطق أخرى.
وفي تصريح خاص لـ “الغد”، تحدث فيصل المشاقبة، نجل الحاجة لطيفة ومدير المدرسة، عن تفاصيل تلك اللحظة التي حملت للعائلة معاني تتجاوز التقدير: “وصلنا خبر التكريم من الديوان الملكي العامر قبل بأسبوع تقريبا، وكانت فرحة والدتي لا توصف بالتكريم من سيد البلاد”.
وعن لحظة الوسام، قال فيصل: “أكثر لحظة أثّرت فينا كانت لما شوفنا أمي واقفة على المنصة، لابسة مدرقتها البدوية، وتستلم الوسام من إيد جلالة سيدنا.. كانت لحظة بتختصر العمر كله”. وأضاف: “وسام الاستقلال من الدرجة الثانية من جلالة سيدنا مش بس تكريم لأمي، هو تكريم لكل امرأة أردنية بتعطي بصمت، ولكل من يبني دون أن ينتظر المقابل.”
وأشار إلى التفاعل المجتمعي الكبير الذي تلا الحفل: “الناس كلها اتواصلت، أجوا يباركوا واستقبلونا بالزغاريد والأغاني الوطنية، وحتى المدارس والطلاب صاروا يحكوا عن القصة كمثال للعطاء، وصار في شعور عام بالفخر.”
بيئة حاضنة للنساء
قالت المديرة التنفيذية لراديو البلد، الصحفية المختصة في الإعلام المجتمعي، عطاف الروضان، في تصريح خاص لـ”الغد”، إن نموذج الحاجة لطيفة يستحق التوقف عنده، لما يحمله من دلالات عميقة على صعيد تمكين النساء والانتماء المجتمعي في البيئة الأردنية الأصيلة.
وأضافت الروضان: الحاجة لطيفة لم تكن يوما جزءا من التجارب التي تسعى فيها المنظمات النسوية، والمجتمع المدني إلى تعديل أو تحسين واقع النساء وتمكينهن اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.. الحاجة لطيفة نشأت في بيئة منحتها، بشكل طبيعي، مساحة كافية لتكون سيدة قرارها، وتملك زمام أمورها، وتتمتع باستقلال مالي كامل دون وصاية أو تدخل.”
وأشارت إلى أن النظرة السائدة لدى الكثير من الجهات، خاصة في العاصمة، تفترض أن النساء في الأطراف غير ممكنات، أو حتى يشكلن تيارا محافظا رافضا لفكرة التمكين. لكن الحاجة لطيفة أثبتت العكس، وقدّمت نموذجا حيا يبرهن على أن البيئة الأردنية الأصيلة، أو ما يمكن تسميته بالبيئة “الفطرية”، هي بيئة حاضنة للنساء، تفتخر بهن وتمنحهن مساحة طبيعية للحضور والمشاركة. هذا الحضور ليس استعراضيا ولا مفروضا، بل حقيقي، نابع من ثقة المجتمع نفسه بالمرأة كجزء أصيل من نسيجه الاجتماعي والعشائري”.
وأكدت الروضان أن كثيرا من النساء في القرى والمجتمعات العشائرية يمثلن مرجعيات ثقافية واجتماعية معتبرة. هؤلاء النساء يشكلن ركيزة في محيطهن، ويُحتكم إليهن في قضايا كثيرة، وهو ما يعكس طبيعة المجتمع الأردني المتسامح والمنتمي، بعيدًا عن الصورة النمطية السائدة عن تلك المجتمعات.”
قالت الروضان أن الحاجة لطيفة تمارس المواطنة الفعلية بكل وعي، حين شعرت بوجود نقص في خدمة أو حاجة مجتمعية، لم تنتظر دعما خارجيا، بل بادرت من ذاتها، وسدت الفجوة المتاحة لديها من ملاءتها المالية الخاصة، دون سعي وراء دعاية أو مكاسب.
وأكدت أن ما قامت به الحاجة لطيفة يُعيد إلى الأذهان ممارسات المجتمع الأردني في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، عندما كانت العائلات في القرى تبادر ببناء المدارس، ودفع رواتب المعلمين، لتأمين تعليم أبنائهم.
هذا التكريم، يؤكد أن النساء الأردنيات، اللواتي بنين بأيديهن مدارس وأحلاما وأملا، يستحققن أن تُروى سيرهن، ويُمنحن وساما يليق بعظمة إسهامهن في بناء الوطن.
الغد – دعاء الزيود
التعليقات مغلقة.