
رقمنة
لا يمكن لأي مراقب لطفل يجلس أمام قنوات اليوتيوب لمشاهدة الألعاب الإلكترونية أن يتجاهل حجم الاستغلال الذي يتعرض له، فلم تعد مشاهدة الأطفال لهذه القنوات مجرد تسلية ترفيهية عابرة.
حيث تكشف المراقبة أن هذه التجربة اليومية أصبحت مكتملة العناصر في الاستهلاك والاستغلال للطفل، إذ تتداخل فيها المتعة مع الإعلان، واللعب مع الاستهلاك، والقدوة مع الترويج.
الطفل الذي يجلس أمام الشاشة لا يلاحظ أنه يتعرض لسيل إعلاني متواصل، لأن الإعلان هنا لا يأتي في فاصل واضح، بل يسكن التفاصيل، كقميص اليوتيوبر، والكرسي الاحترافي، وسماعة الرأس، والمجسمات المنتشرة خلفه، وحتى نبرة الصوت المبالغ في الحماس. كل شيء يبدو طبيعيًا، بينما الرسالة الإعلانية تعمل بصمت وتأثيرها قوي.
يشرح اختصاصي علم الاجتماع حسين خزاعي أن ما نشهده اليوم هو “أكثر أشكال الإعلان تطورًا وخطورة”، لأن الطفل لا يتلقاه بوصفه إعلانًا.
ولأن العلاقة التي تربط الطفل وبطله اليوتيوبر هي علاقة ثقة واهتمام متبادل، تجعل أي منتج يظهر في هذا السياق يبدو مرغوبًا وضروريًا.
ويؤكد خزاعي أن الطفل لا يطلب اللعبة أو الكرسي لأنه يحتاجه فعلًا، بل لأنه يريد أن يكون جزءًا من العالم الذي يراه على الشاشة.
فالصورة جميلة، وتبدو مريحة، وكأنه في عالم حقيقي بين اللعبة وما يدور حول هذا اليوتيوبر الناجح والذي يلعب باحترافية وكله حماس، فهو يريد أن ينتمي إلى هذا العالم وأن يكون من أحد رواده لأن لديه نفس الاهتمام والنشاط.
بين هالة خليل، وهي أم لطفلين مهووسين بلعبة “مانكرافت”، إذ إنهما طوال الوقت يشاهدان شخصًا يبدو معروفًا على اليوتيوب يلعب هذه اللعبة، يلبس تيشرت يحمل شعار اللعبة ويشرب بكأس عليه شيء من اللعبة أيضًا، وكرسيه كذلك وكل ما حوله يدل عليها.
تقول: “قلت لطفليّ: لماذا تشاهدان شخصًا يلعب ويستمتع وأنتما فقط مراقبان له ومستمعان لـصوته العالي؟”. وكان جوابهما: “إنه ماهر حقًا في اللعب ونحن نتعلم منه”.
وتذكر أن ابنها الأكبر يرفض الجلوس على مكتبه الدراسي، مطالبًا بكرسي “اللاعبين” الذي يجلس عليه اليوتيوبر المفضل لديه. ولم يكن الطفل مهتمًا بالكرسي من حيث الراحة أو الفائدة، بل كان يكرر: “أريد أن أكون مثله”.
ومن وجهة نظر خزاعي، هذه الحالة تعكس كيف يتحول الاستهلاك إلى أداة لبناء الهوية. فالطفل قديمًا كان يرى إعلانًا عن حلوى جديدة، فيريد تجربتها وتذوقها، أما اليوم فشكل الإعلانات واستغلال الأطفال بات مختلفًا. والسبب هو الخطاب الإعلاني الجديد الذي يربط القيمة الذاتية بالاقتناء.
هذا النوع من الضغط لا يظهر فجأة، بل يتراكم يومًا بعد يوم، حتى يصبح شعور النقص جزءًا من وعي الطفل.
المرشدة النفسية والتربوية رائدة الكيلاني ترى أن الخطر الأكبر يكمن في أن الطفل يتعرض لهذا الضغط في مرحلة لم تكتمل فيها قدراته العقلية والنقدية. وتقول: “إن الأطفال لا يملكون مهارة التفريق بين الترفيه والتسويق، وهم يتعاملون مع ما يرونه على الشاشة باعتباره حقيقة كاملة”.
وحين يقارن الطفل غرفته البسيطة بغرفة اليوتيوبر المليئة بالإضاءة والمجسمات، يبدأ شعور صامت بعدم الرضا عن واقعه.
وتستذكر الكيلاني طفلاً يبلغ من العمر إحدى عشرة سنة يطلب باستمرار شراء شخصيات وأدوات مرتبطة بلعبة إلكترونية يتابع محتواها، ومع تكرار الرفض، بدأ الطفل يعبر عن نفسه بعبارات قاسية، وعدم الرضا عما حوله، وكانت والدته كثيرة الشكوى من حالته.
وتوضح الكيلاني أن هذه العبارات مؤشر على تراجع تقدير الذات، وربط القيمة الشخصية بالمظهر الخارجي والممتلكات، وهو أمر شديد الخطورة في هذا العمر. وترى الكيلاني أن هذه الإعلانات المتخفية لا تكتفي بدفع الطفل للاستهلاك، بل تؤثر في منظومته النفسية كاملة، فهي تعزز الإشباع الفوري، وتخلق توقعات غير واقعية عن الحياة والنجاح.
وتضيف أن الطفل يتعلم بأن المتعة مرتبطة بالشراء، وأن القبول الاجتماعي يأتي من امتلاك ما يملكه الآخرون، لا من المهارات أو القيم.
وفي المقابل، يشير خزاعي إلى أن المشكلة لا تقع على عاتق اليوتيوبرز وحدهم، بل هي نتاج منظومة اقتصادية رقمية ترى في الطفل مستهلكًا مستقبليًا مربحًا.
ومع غياب القوانين الواضحة التي تلزم صناع المحتوى بالإفصاح عن الإعلانات، يُترك الأطفال في مواجهة سوق مفتوحة بلا حماية حقيقية.
ومن الحلول؛ أشارت الكيلاني: «لا يمكن أن تكون تقنية فقط، بل تربوية بالدرجة الأولى، فالمنع الكامل ليس واقعيًّا، لكن الحوار ضروري، وحين يجلس الأهل مع الطفل ويسألونه عن سبب إعجابه بشيء ما، ويفسرون له الفرق بين الحاجة والرغبة، يبدأ الوعي بالتشكل تدريجيًّا».
وتؤكد على دور المدرسة في إدخال مفاهيم التربية الإعلامية، وتعليم الأطفال كيف يقرؤون الصورة والرسالة من خلفها. ففي هذا العالم تتحول غرفة اليوتيوبر إلى واجهة إعلانية، تبدو الطفولة مهددة بأن تختزل في سلة مشتريات.
المصدر : صحيفة الغد



