ما الآثار الاجتماعية والاقتصادية الأكثر عمقا للذكاء الاصطناعي؟
رقمنة
*شارمستا أبايا، رمان شودري، يوهان بيورمان بيرجمان
واشنطن -قد يكون الذكاء الاصطناعي عالمي الانتشار، لكنه محلي التأثير بامتياز. وفي حين أن ابتكارات الذكاء الاصطناعي الرائدة – بالمعنى الواسع- ما يزال مصدرها في الغالب عددا محدودا من المختبرات القوية في أغنى بلدان العالم، فإن الآثار الاجتماعية والاقتصادية الأكثر عمقاً للذكاء الاصطناعي لن تتجسد في وادي السيليكون – بل في مدن مثل أكرا وعمّان وكراتشي وليما ولومي والرباط وفينتيان وسوفا.
وتوفر المجالات الفرعية للذكاء الاصطناعي، مثل التنبؤ واتخاذ القرار، والرؤية والاستشعار الآلي، ومعالجة اللغات الطبيعية والتعرف على الكلام، والروبوتات والميكنة، والذكاء الاصطناعي التوليدي، إمكانات هائلة. وتسهم هذه المجالات في تسريع الاكتشافات في علوم المناخ، وتحسين النواتج في قطاعات الزراعة والصحة والتعليم. لكن تأثيرها في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل يتوقف على شيء أكبر، ألا وهو مدى ارتباطها بالواقع والبيانات والقدرة على التأثير على المستوى المحلي.
ومن أجل إطلاق العنان لقوة الأثر التحويلي لابتكارات الذكاء الاصطناعي في كل مكان، يجب أن نربط أفضل ما في التكنولوجيا العالمية بالواقع الفعلي للمجتمعات المحلية. وهذا يعني تحسين إمكانيات الاتصال الإلكتروني وتوفير الطاقة، والحوسبة والنماذج، ومراعاة السياقات المختلفة لتلك المجتمعات، وكل ذلك على هيئة بيانات عالية الجودة وجيدة التنظيم، وقدرات لتطوير واستخدام حلول الذكاء الاصطناعي، وتطوير حالات (سيناريوهات) استخدامه، بحيث تكون مرآة للسياق الثقافي والأولويات الخاصة بتلك المجتمعات. ومن أجل تسريع العمل واسع النطاق، يتعين الجمع بين حلول الذكاء الاصطناعي التي يمكن أن تعزز نواتج التنمية في ظل القيود القائمة، وبين الجهود الرامية إلى بناء المنظومة المستهدفة والرغبة في الاستثمار اللازم لتحويل الاقتصادات النامية إلى مراكز لابتكارات الذكاء الاصطناعي.
وتناول المتحدثون في القمة الرقمية العالمية للعام 2025 التي نظمتها مجموعة البنك الدولي، هذا التقاطع المتمثل في كيفية تجنب الخيارات الخاطئة بين ما هو “عالمي” وما هو “محلي”، وبناء أوجه تآزر تدفع الابتكار الشامل للجميع بدلاً من ذلك. وبرزت ثلاثة محاور تركيز يمكن أن تساعد في رسم هذا المسار الوسط نورد تفاصيلها أدناه.
أولاً، التركيز على البيانات المحلية لجني المنافع على المستوى المحلي: في حين أن أدوات التعلم الآلي القوية، مثل النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs)، تحرز تقدماً ملحوظاً في مجالات، مثل التعليم والرعاية الصحية والزراعة، فغالباً ما تكون إمكاناتها قاصرةً عند استخدامها للتعامل مع تحديات محلية محددة في الاقتصادات الناشئة من دون تكييفها. ويمكن للمجتمعات المحلية تحقيق استفادة أكبر بكثير من حلول الذكاء الاصطناعي المصممة خصيصاً لها أو التي يتم تعديلها لتلائم سياقاتها، باستخدام البيانات التي تعكس احتياجاتها وقيمها وتفضيلاتها.
وفي جميع أنحاء أفريقيا، يعكس ظهور نماذج الذكاء الاصطناعي الصغيرة وعالية التخصص – ما يطلق عليه “الذكاء الاصطناعي صغير الحجم” – فهماً أعمق وأكثر فاعلية للاحتياجات والموارد على المستوى الإقليمي. ويمكن أن يكون تمكين تدفقات البيانات عبر الحدود وربط مؤسسات البحث العالمية التي تبني النماذج بمراكز البحوث المحلية القادرة على مراعاة السياق المحلي واستيعاب تفاصيله أمراً فعالاً. ومن الأمثلة المفيدة على ذلك مختبر بيانات توغو، وهو عبارة عن شراكة بين وزارة الاقتصاد والتحول الرقمي في توغو وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، بهدف إنشاء إدارة مستدامة تختص بالنهوض بعلوم البيانات في حكومة توغو. ثانياً، تدعيم البنية التحتية الرقمية والتعليم لتوطين الابتكار: لا غنى عن وضع أسس موثوقة للذكاء الاصطناعي، وتشمل توفير إمكانية الاتصال الإلكتروني واستدامة مصادر الطاقة، وتوفير إما الحوسبة الطرفية في مراكز البيانات أو الحوسبة السحابية، فضلاً عن السياق المتمثل في البيانات عالية الجودة وجيدة التنظيم، والقدرات الخاصة بتطوير حلول الذكاء الاصطناعي واستخدامها. وللمساعدة على وصول منافع الذكاء الاصطناعي إلى الفئات الأكثر احتياجاً، ينبغي أن تعمل المبادرات التعليمية الموجهة على تمكين مختلف فئات السكان من المشاركة الجادة في ابتكارات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الفئات التي طالما عانت تهميشها.
وقد أثبتت البرامج التي توفر التدريب والموارد خصيصاً للفئات المحرومة التي تعاني من نقص التمثيل فعاليتها في دفع الحلول المبتكرة المرتبطة بالواقع المحلي حتى في غياب قوة حوسبة واسعة أو مجموعات ضخمة من البيانات. ومن الأمثلة على ذلك برنامج المرأة الأفريقية في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الذي تديره اليونسكو بالاشتراك مع المركز الدولي للذكاء الاصطناعي ومؤسسة المكتب الشريف للفوسفات بالمغرب. أضف إلى ذلك أن رعاية ابتكارات الذكاء الاصطناعي صغيرة الحجم والموجهة لمعالجة المشكلات والقضايا المحلية تعد أمراً بالغ الأهمية، عوضاً عن السعي وراء نماذج ضخمة مدفوعة باعتبارات تجارية فقط. وتتمتع هذه التطبيقات المخصصة للذكاء الاصطناعي، والمستندة إلى قوة علم البيانات، بإمكانات أكبر لتوفير الحلول المستدامة التي تركز على المجتمعات المحلية وتلبي الاحتياجات الفعلية لتلك المجتمعات. وأخيراً، يجب على البلدان استكشاف كيفية الاستفادة من أصولها – سواء كانت موارد معدنية أو بيانات – بشكل أكثر فاعلية لتمويل الاستثمارات التي تساعدها على الانتقال من صفوف المستهلكين لمخترعات الذكاء الاصطناعي إلى صفوف المنتجين لها.
ثالثاً وأخيراً، صياغة حوكمة خاصة بالذكاء الاصطناعي توازن بين التعاون الدولي والسيادة الوطنية: ولا تعني فاعلية حوكمة الذكاء الاصطناعي التجانس والتوحيد، بل تتضمن وضع معايير وأطر تساند التعاون من دون المساس باستقلالية البلد المعني أو سيطرته على موارده الوطنية. ومن شأن وضع نماذج واضحة للحوكمة التي تمكن البلدان من التعاون والمساهمة في العمل كنظراء، وتعطي الأولوية لقابلية التشغيل البيني، أن تعزز التعاون العالمي مع الحفاظ على السيادة في الوقت نفسه. وسوف يسهم البدء ببرامج تجريبية في مجموعة صغيرة من البلدان لاختبار هذه النماذج وتنقيحها، ووضع قواعد قابلة للتطبيق على المستوى الإقليمي، في إرساء سوابق قيمة لتطبيقها على نطاق واسع بعد ذلك.
وأوضحت المناقشة التي جرت في القمة الرقمية العالمية 2025 أمراً واحداً، وهو أن الطريق إلى الأمام ليس عالمياً أو محلياً، بل هو مسار وسط يجمع جوانب كلا النهجين لتقديم الحلول والابتكارات القائمة على الذكاء الاصطناعي على مستوى المجتمع المحلي في الاقتصادات النامية. فمن ناحية، ستستمر النماذج والبنية التحتية العالمية في تحقيق طفرات في قدرات الذكاء الاصطناعي – ولكن من دون مراعاتها للسياق المحلي وتكييفها لتتوافق معه، لا يمكن تحقيق الاستفادة الكاملة منها. ومن ناحية أخرى، يمكن لنماذج “الذكاء الاصطناعي صغيرة الحجم” المحلية القائمة على مجموعات بيانات محددة أن تحل الكثير من المشكلات الحالية بمزيد من الفعالية والكفاءة من دون الحاجة إلى استثمارات كبيرة. وتمتلك الجهات الفاعلة على المستوى المحلي ما يلزمها من رؤى متبصرة وبيانات وثقة مجتمعاتها المحلية لتضمن ألا يكون الذكاء الاصطناعي – بجميع أشكاله – مجرد أداة ذات أثر تحويلي، بل أن يكون جديراً بالثقة ويمكن الاعتماد عليه.
وحدد المتحدثون في الحلقة النقاشية ست ضرورات حتمية للعمل كما يلي:
الاستثمار في المواهب المحلية والمغتربين لتحفيز الابتكار الشامل للجميع الذي يرتكز على الأولويات الوطنية والسياقات الإقليمية. والبناء من الداخل بتقوية التعليم والبنية التحتية وبناء القدرات قبل الإفراط في الاعتماد على الحلول المستوردة. وإشراك المجتمعات المحلية في صنع القرار لضمان أن يكون تطوير الذكاء الاصطناعي عملية ديمقراطية وشاملة للجميع ومتسقة مع التجارب الواقعية لمن يستهدف خدمتهم.
اضافة الى إعطاء الأولوية لحالات الاستخدام الواقعية التي تتصدى للتحديات المحلية بشكل مباشر وتوفر قيمة ملموسة للمواطنين، لا سيما في المناطق المحرومة من الخدمات.
تبني موقف استباقي بشأن الحوكمة بين واضعي السياسات والمؤسسات، مع إدراك الإمكانات التي يوفرها الذكاء الاصطناعي والعمل بهدف صياغة تطبيقاته بحيث تتواءم مع السياقات المحلية.
التفكير فيما يتجاوز المدى القصير لبناء منظومات ذكاء اصطناعي تتسم بالاستدامة ومراعاة الجوانب السيادية والسياقات المحلية.
لقد شرع رواد الأعمال ومؤسسات القطاع الخاص والأوساط الأكاديمية والحكومات في الاقتصادات النامية، بالفعل، في التفكير على مستوى عالمي والعمل على مستوى محلي لتوفير حلول ذكاء اصطناعي تتسم بالفاعلية للبيئات التي يمكن لهذه الحلول إحداث أكبر فرق ملموس فيها. ويتعين على المؤسسات الإنمائية والشركاء الآخرين مساعدة تلك الأطراف على توسيع نطاق هذه الجهود لتحقيق أقصى استفادة من ابتكارات الذكاء الاصطناعي من أجل دفع العمل الإنمائي إلى الأمام.
* خبراء في البنك الدولي
الغد
التعليقات مغلقة.