كيف يزيد الذكاء الاصطناعي من مخاطر تزييف الفواتير

الاحتيال المالي.. تهديد متزايد للشركات والأفراد:

2

رقمنة

يشهد العالم اليوم ثورة تكنولوجية غير مسبوقة بفضل الذكاء الاصطناعي، الذي يبرز كقوة تحويلية تقدم فوائد جمة تمتد من تسهيل حياتنا اليومية عبر أنظمة الملاحة الذكية التي ترشدنا لحظة بلحظة في طرقنا إلى إحداث ثورة في الرعاية الصحية من خلال الكشف المبكر عن الأمراض.

لكن هذا الانتشار الواسع والتطور المتسارع كشف عن جانب مظلم مقلق، يتمثل في فتح أبواب لم تكن معهودة من قبل لعمليات الاحتيال والخداع الرقمي، وبمستويات غير مسبوقة من الإتقان والتعقيد.

وقد أدت القدرات المتطورة للذكاء الاصطناعي، خاصة في مجال توليد المحتوى، الذي يشمل: النصوص والصور والمقاطع الصوتية والمرئية، إلى ظهور أشكال مبتكرة من التزييف الرقمي، تتميز بواقعية مذهلة تجعل عملية اكتشافها تحديًا حقيقيًا حتى للمتخصصين.

لم تَعد عمليات الاحتيال المالي مقتصرة على الأساليب التقليدية؛ إذ تواجه اليوم الشركات بجميع أحجامها، سواء كانت مؤسسات عملاقة أو شركات ناشئة صغيرة، وحتى الهيئات الحكومية المسؤولة عن تحصيل الضرائب، تحديًا متناميًا يتمثل في أنها أصبحت هدفًا لمطالبات استرداد أموال احتمالية.

وتستند هذه المطالبات غالبًا إلى وثائق مالية تبدو أصلية تمامًا، مثل: إيصالات الشراء وفواتير المعاملات، وتصل درجة الإتقان في تصميم هذه المستندات المزيفة إلى حد يحاكي النسخ الأصلية في أدق تفاصيلها – من حيث التصميم، والخطوط المستخدمة، وتنسيق البيانات، وحتى العلامات الدقيقة التي قد توحي بالأصالة – لدرجة يصعب معها تمييزها بالعين المجردة أو عبر عمليات التدقيق الروتينية، مما يشكل تهديدًا خطيرًا للسلامة المالية.

وعلى صعيد الأفراد، يجب عليهم أيضًا إبداء أقصى درجات الحذر واليقظة في تعاملاتهم المالية والرقمية لتجنب الوقوع ضحايا لهذه الأساليب الاحتيالية التي تزداد تطورًا يومًا بعد يوم.

ولم يَعد الاحتيال المالي المعتمد على المستندات المزيفة مجرد إزعاج بسيط، بل هو قضية عالمية جسيمة ذات تكلفة باهظة، إذ تقدر (جمعية محققي الاحتيال المعتمدين الدولية) ACFE – وهي هيئة دولية رائدة في مكافحة الاحتيال – أن المؤسسات تخسر ما يقرب من 5% من إيراداتها السنوية بسبب الاحتيال.

وقد وثقت الجمعية في تقريرها الصادر عام 2024، خسائر تجاوزت 3.1 مليارات دولار أمريكي عبر 1,921 قضية، ويشكل الاحتيال في الفواتير والمصروفات وحده نسبة تبلغ 35% من قضايا اختلاس الأصول، بمتوسط خسائر يبلغ 150,000 دولار أمريكي لكل حالة تُبلِّغ عنها الشركات.

والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن الطريقة الأساسية التي يلجأ إليها المحتالون لإخفاء جرائمهم عادة ما تكون عبر إنشاء مستندات مزيفة أو تعديل الملفات الموجودة، وذلك تحديدًا ما يسهله الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي.

وتتعدد طرق الاحتيال؛ فقد ينشئ موظف إيصالًا وهميًا لوجبة غداء عمل لم تحدث، أو يختلق مقاول إيصالات لمصروفات لم ينفقها قط، وفي كلتا الحالتين تُستخدم المستندات المزورة لسحب أموال غير مستحقة.

وتشير نتائج استطلاعات رأي حديثة إلى أن هذه المشكلة قد تكون متجذرة وأكثر انتشارًا مما قد تعكسه الأرقام الرسمية للقضايا المبلَّغ عنها، ففي استطلاع رأي أُجري في عام 2024، اعترف نحو 24% من الموظفين بأنهم ارتكبوا بالفعل شكلًا من أشكال الاحتيال المتعلق بنفقات العمل، بالإضافة إلى ذلك، أقرّ نحو 15% بأنهم يفكرون جديًا في القيام بمثل هذه الممارسات.

ولعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو ما كشفه استطلاع آخر شمل صناع القرار في القطاع العام في المملكة المتحدة، إذ اعترفت نسبة تبلغ 42% منهم بتقديم مطالبات نفقات احتيالية في وقت ما خلال مسيرتهم المهنية، وتكشف هذه الأرقام مدى انتشار الظاهرة وتأثيرها في مختلف القطاعات.

 

لفهم الأبعاد الحقيقية لكيفية مساهمة الذكاء الاصطناعي في إحداث طفرة محتملة ومقلقة في أنشطة الاحتيال المالي، من الضروري أن نلقي نظرة تحليلية على نموذج (مثلث الاحتيال) fraud triangle الكلاسيكي، الذي يوضح أن وقوع الاحتيال يتطلب توفر ثلاثة عناصر وهي: الدافع (الذي يتمثل في وجود حاجة ماسة أو ضغط قوي)، والتبرير (إيجاد مبرر أخلاقي للفعل)، والفرصة (التي تتمثل في القدرة على ارتكاب الاحتيال دون اكتشاف).

وفي الماضي، كانت القدرة على إنشاء مستندات بمستوى عالٍ من الإتقان والمصداقية تمثل تحديًا كبيرًا وعائقًا حقيقيًا يحد من (الفرصة)، حتى مع وجود الدافع والتبرير. لكن اليوم، يأتي الذكاء الاصطناعي ليقلب هذه المعادلة رأسًا على عقب، إذ يعمل على إزالة هذا الحاجز التقني من خلال جعل عملية إنشاء المستندات المزيفة سهلة ومتاحة للجميع تقريبًا، فقد أصبح توليد فاتورة أو إيصال أو كشف حساب مزيف لا يتطلب سوى بضع نقرات فقط.

وهنا تكمن الخطورة الكبرى، فالذكاء الاصطناعي لا يصنع بالضرورة دوافع جديدة للاحتيال ولا يغير من طبيعة التبريرات التي يختلقها البشر، ولكنه يوسع بنحو مقلق نطاق “الفرصة” المتاحة لارتكابه.

وقد أكدت الأبحاث والدراسات المتخصصة في مجال علم الجريمة وسلوكيات الاحتيال، وجود علاقة مباشرة وقوية بين زيادة الفرص المتاحة لارتكاب الجريمة، وبين الارتفاع الفعلي في معدلات وقوع تلك الجريمة. وبتسهيل الذكاء الاصطناعي لعملية تزييف المستندات، فإنه يغذي بنحو مباشر أحد الأضلاع الرئيسية لمثلث الاحتيال، مما ينذر بارتفاع محتمل في معدلات الاحتيال المالي في المستقبل القريب.

البوابة التقنية

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد