مقالات

في سبيل التنمية….. الذكاء الاصطناعي حجم صغير وأثر كبير

رقمنة

*سانغبو كيم، كريستين جينواي تشيانغ*

عندما يسمع الناس مصطلح “الذكاء الاصطناعي”، فغالبًا ما يتبادر إلى أذهانهم النماذج اللغوية الكبيرة التي تحظى بتغطية إعلامية واسعة، فهي أنظمة ضخمة مدرَّبة على كميات هائلة من البيانات، تعمل على حواسيب عملاقة، وتحتاج إلى موارد هائلة لتشغيلها. وفي معظم الأحيان تُثير هذه الأشكال اللافتة للانتباه من “الذكاء الاصطناعي كبير الحجم” حواراتٍ مهمة حول إمكانية الوصول والتنافسية. ومع ذلك، هناك مجال لا يقل قوة، وربما أكثر تأثيرًا، يتبلور في البلدان النامية يتمثل في بروز “الذكاء الاصطناعي صغير الحجم” على السطح

ويُعد الذكاء الاصطناعي صغير الحجم نهجاً ميسور التكلفة، وسهل المنال، وملائمًا للسياق الذي صمم من أجله. وعلى عكس الذكاء الاصطناعي كبير الحجم، فإنه لا يتطلب بنية تحتية ضخمة أو خوادم متطورة. ويعتمد على مجموعات بيانات صغيرة محدودة، ويعمل على الهواتف الذكية أو أجهزة الكمبيوتر المحمولة، ويستهلك موارد محدودة، كما أنه دقيق التصميم من أجل مواجهة التحديات المحلية العاجلة. ويقدم الذكاء الاصطناعي صغير الحجم بالفعل حلولاً ملموسة في مجالات الزراعة والصحة والتعليم للمجتمعات ذات الموارد المحدودة حيث تشتد الحاجة الملحة إليه.

الزراعة.. تعزيز القدرة على الصمود وزيادة الإنتاجية
يسهم الذكاء الاصطناعي صغير الحجم في تمكين المزارعين باستخدام أدوات بسيطة ومحلية لمساعدتهم على اتخاذ قرارات أفضل، مما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتعزيز القدرة على الصمود.
في كينيا، على سبيل المثال، يمكّن تطبيق “Nuru” المزارعين من تصوير أوراق المحاصيل المصابة وإرسالها للمختصين لتشخيصها بشكل فوري دون الحاجة إلى اتصال دائم بالإنترنت. وتسهم مثل هذه الأدوات في مساعدة المزارعين على تحسين إنتاجيتهم وزيادة دخلهم. وفي السنغال، تستخدم إحدى شركات الزراعة الرقمية بيانات المزارعين والمحاصيل لتقديم المشورة عبر الهاتف المحمول بشأن السيطرة على أمراض النباتات وإدارة الاحتياجات المائية، مما يوفر المعلومات الصحيحة عند الحاجة إليها. أما في غانا، فتقوم إحدى الشركات الناشئة بإرسال توقعات الطقس المحلية باستخدام الرسائل النصية القصيرة، مما يساعد المزارعين على تحديد أوقات الزراعة والري والحصاد بشكل أفضل، وكل ذلك باستخدام هواتفهم البسيطة. وتعتبر هذه التطبيقات عملية وفعالة ومنخفضة التكلفة.
وتكمن قوة هذه الأدوات في قدرتها على البناء على ما هو موجود بالفعل. وباستخدام البنية التحتية الأساسية، مثل سجلات المزارعين المحلية في أماكن مثل الهند، يمكن للذكاء الاصطناعي صغير الحجم إنشاء منصات جديدة تربط المزارعين بمصادر التمويل والأسواق الجديدة والخدمات الاستشارية المصممة خصيصًا.

الرعاية الصحية.. إمكانية الوصول
في مجال الرعاية الصحية، يُحدث الذكاء الاصطناعي صغير الحجم أثراً ملموساً من خلال تقديم أدوات قوية ذات نطاق ترددي منخفض، تعمل على توسيع إمكانية الوصول ومصممة خصيصاً لتلبية الاحتياجات المحلية. فعلى سبيل المثال، تُجرى تجارب على تطبيقات الذكاء الاصطناعي في جزر المحيط الهادئ لمساندة رعاية الأمهات في المناطق النائية حيث يصعب الوصول إلى الأطباء. وفي الهند، تقوم أدوات الذكاء الاصطناعي المُصممة للعمل على الهواتف المحمولة بفحص حالات السل والسكري مباشرة عبر هذه الأجهزة دون الحاجة إلى الاتصال عريض النطاق.
ومن الجدير بالذكر أن الذكاء الاصطناعي صغير الحجم يتكيف أيضاً مع الثقافات المحلية. ففي بيرو، تعمل إحدى المبادرات على تطوير دراسات تشخيصية تعتمد على الصوت بلغات السكان الأصليين، مما يعزز ثقة المجتمعات المحلية في خدمات الرعاية الصحية ويضمن أن تكون مخترعات التكنولوجيا في خدمة الجميع.

التعليم.. سد الفجوات
يسهم الذكاء الاصطناعي صغير الحجم في التصدي لأحد أكبر تحديات التعليم، ألا وهو توفير تعلم جيد المستوى ومتوافق مع الاحتياجات الشخصية على نطاق واسع. ففي غانا، يكلف تطبيق الذكاء الاصطناعي “Rori” لتدريس الرياضيات – يتم توزيعه باستخدام تطبيق “واتساب” ومُدَرب على بيانات ملخصة لعدد 500 درس فقط – نحو 5 دولارات للطالب سنويًا، لكنه يحقق مكاسب في التعلم تعادل سنة إضافية من الدراسة.
وتتزايد مثل هذه المنافع بصورة مستمرة، ففي كوستاريكا وجمهورية الدومينيكان والمكسيك، تعمل أنظمة التدريس المستندة إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي على توسيع دائرة التعلم الشخصي لتشمل سكان المجتمعات النائية والسكان الأصليين. وفي الوقت ذاته، تعمل بعض المنصات مثل “Diksha” في الهند و”Shikkhok” في بنغلاديش على دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في تطبيقات الهواتف المحمولة التي تعمل دون اتصال بالإنترنت، وباستخدام لغات متعددة. وتثبت هذه النماذج قدرة تكنولوجيا التعليم على إحداث فرق ملموس في حياة الطلاب والمعلمين دون الحاجة إلى موارد مكثفة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى توسيع آفاق شمول الجميع وإتاحة الفرص في كل مكان.

الدروس المستفادة
يعتمد نجاح الذكاء الاصطناعي صغير الحجم على عدد من المبادئ. أولاً، يحقق أفضل أداء عند معالجة مشكلات محلية محددة وواضحة، مثل مرض زراعي معين أو حالة صحية محددة. ثانياً، يستند إلى البنية التحتية والشبكات القائمة — مثل سجلات المزارعين أو تطبيق واتساب أو أنظمة العاملين الصحيين المحليين — لتوسيع نطاق تأثيره. ثالثاً، يُعد تصميمه للعمل على الهواتف المحمولة بصفة أساسية، وبدون الحاجة إلى الاتصال بالإنترنت، أمراً بالغ الأهمية، نظراً لأن الهواتف الذكية هي غالباً الجهاز الرقمي المستخدم بصورة أساسية في البلدان النامية، حيث تكون إمكانية الاتصال غير منتظمة. وأخيراً، يزدهر الذكاء الاصطناعي صغير الحجم بفضل الشراكات بين القطاعين العام والخاص، حيث توفر الحكومات منصات داعمة، ويقود القطاع الخاص أنشطة لابتكار، وتشكل المجتمعات المحلية الحلول التي تلبي احتياجاتها الحقيقية على أرض الواقع.
تطوير الذكاء الاصطناعي المفيد للجميع
من المؤكد أن يواصل الذكاء الاصطناعي كبير الحجم تجاوز الحدود التقليدية والتوقعات في مجالي البحث والصناعة، ولكن الذكاء الاصطناعي صغير الحجم هو المجال الذي نشهد فيه أثره الفوري على المجتمعات المحلية بالفعل. ويتميز هذا النوع من الذكاء الاصطناعي بطبيعته العملية والاستدامة، بالإضافة إلى الكفاءة من حيث التكلفة. وعلى الرغم من محدودية نطاقه، إلا أنه يتيح للبلدان النامية القدرة على تجاوز الحواجز التقليدية والاستفادة من التطورات التي يشهدها الذكاء الاصطناعي حالياً. وفي البنك الدولي، نرى في ذلك جسرًا حيويًا نحو عالم رقمي أكثر شمولاً في المستقبل.
ولا ينبغي أن تقتصر فرص الرفاهة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي على عدد قليل من البلدان. ولهذا يقدم الذكاء الاصطناعي صغير الحجم سردية جديدة، تركز على الإبداع وإتاحة الفرص وبناء القدرة على الصمود، حيث ينبع من المجتمعات المحلية التي هي في أمس الحاجة إليه. ولم تظهر بعد أفضل الفرص التي يتيحها هذا النوع من الذكاء الاصطناعي.

* سانغبو كيم نائب الرئيس لشؤون التحول الرقمي، البنك الدولي. كريستين جينواي تشيانغ مديرة عامة لقطاع الممارسات العالمية للتحول الرقمي.

*المصدر : صحيفة الغد اليومية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى