سوق العمل والذكاء الاصطناعي.. تحولات جذرية في الأفق
رقمنة
«خمسون بالمائة من وظائف الياقات البيضاء للْمُبتدئين ستختفي خلال السنوات الخمس القادمة». بهذه الكلمات الصادمة أطْلق داريو أمودي الرئيس التنفيذي لشركة «Anthropic» تحذيرات زادت من ضربات ناقوس الخطر، وجهها إلى صُناع القرار والعاملين على حد سواء، وزاد أمودي بأنه يتوقع ارتفاعًا في معدلات البطالة في أميركا إلى ما بين 10-20 % خلال مدة عام إلى خمسة أعوام.
هذه التصريحات تكتسب أهمية استثنائية كونها صادرة عن أحد قادة صناعة الذكاء الاصطناعي في العالم، وليس من محللين، أو مُتشائمين مهووسين بنظريات نهاية العالم، فأمودي يقفُ على الخط الأول في البحث والتطوير لهذه التقنيات، ويرى بوضوحٍ ما قد لا يراهُ الآخرون من تسارعٍ مُذهل في قُدرات الآلة الذكية.
ما نُشاهده من مواقعنا في الإدارة، وما نسمعه في المُؤتمرات واللقاءات على المستوى العالمي، هو ملامح هذا التحول تتجلى في مجالاتٍ مُتعددة، ومن بينها المهن التي تتجه إليها أجيالُنا الجديدة مثل قطاعي تكنولوجيا المعلومات والمهن الطبية؛ حيث تتسارع وتيرة تبني التقنيات الذكية بشكلٍ لافت. فالمُبرمجون والمطورون الذين اعتادوا على أداء مهام روتينية في كتابة الشيفرات البرمجية، باتوا اليوم يُواجهون مُنافسًا شرسًا يتمثل في أدوات الذكاء الاصطناعي التي تستطيع إنجاز ذات المهام بسرعةٍ فائقة وبدقةٍ تضاهي -إن لم تتفوق على- أغلب ما يُنتُجه العقل البشري اليوم.
وفي القطاع الطبي؛ تتجلى التحديات بصورةٍ مُختلفة، إذْ نرى بدايات تتزايد كمًا، وتتراكم كيفًا يحلُ فيها الذكاء الاصطناعي محل العديدْ من المهام التشخيصية التي كانت حكرًا على الأطباء، فالتقنيات الحديثة باتتْ قادرة على تحليل الصور الإشعاعية واكتشاف الأورام بدقةٍ تفوقُ المُمارسات المُعتادة، مما يضعُ علامات استفهام كبيرة حوْل مُستقبل بعض التخصصات الطبية على المدى المتوسط والطويل.
وإذا كانت هذه التحديات العالمية تتطلب تعاونًا عالميًا وإقليميًا ومُواجهة شاملة -ربما كمواجهة وباء كورونا مع الفوارق- فإن الفوارق بين الدول من حيثُ الموارد، ومن حيثُ موقعها على خريطة الذكاء الاصطناعي توجب علينا أنْ نتحمل مسؤوليتنا محليًا أمام هذه التحولات بقدر ما نستطيع، خاصة مع اعتماد الاقتصاد المحلي بشكلٍ كبيرٍ على قطاع الخدمات والوظائف المعرفية، واعتمادنا المتزايد على أسواق العمل في دول الجوار العربي، فالمُنتدى الاقتصادي العالمي يُشيرُ في تقريره الأخير إلى أن التحولات القادمة ستُطال 22 % من إجمالي الوظائف الحالية خلال الفترة 2025 – 2030، وهي نسب تتغير من بحثٍ إلى بحث، ومن شهرٍ إلى شهر؛ مُشكلة تحدٍ آخر أمام المُخططين وواضعي السياسات وصُناع القرار.
لكن، وكما هي سُنة الحياة، فإن كل تحدٍ يحملُ في طياته فُرصًا واعدة؛ فالتحول نحو الذكاء الاصطناعي يفتحُ الباب أمام أعمالٍ ووظائف جديدة لمْ تكن موجودة من قبل، وهي ذات ديناميكية مُتسارعة وتطورات مُتعددة المجالات؛ يتعلق الكثير منها بتطبيق إمكانات الذكاء الاصطناعي في العمل وفي الحياة، تنتظرُ المُبادرات والإمكانات ومنها ما هو في دائرة الإمكان.
والحقيقة التي لا مفر من مُواجهتها بشجاعةٍ هي أن عصر الذكاء الاصطناعي لنْ يتوقفْ بانتظار من يتأخر، فإما أنْ نستعد لهذه الموجة العاتية بتطوير مهاراتنا ومراجعة برامجنا التعليمية وإعادة تأهيل كوادرنا؛ أو أنْ نجد أنفُسنا أمام مُشكلات مُستعصية في سوق عمل لا يرحمْ المُتأخرين.
الغد – الدكتور عاصم منصور
التعليقات مغلقة.