
رقمنة
* المهندس معتز العطين
يمثل بناء بيئة تكنولوجية متقدمة خطوة محورية في إعادة تشكيل بنية الاقتصاد الوطني وفق متطلبات المستقبل، إذ لم يعد الاعتماد على أدوات الثورة الصناعية الرابعة خيارًا ثانويًا، بل بات شرطًا أساسيًا لرفع القدرة التنافسية وتحقيق النمو المستدام. فدمج تقنيات مثل التصنيع الرقمي، الطباعة ثلاثية الأبعاد، الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء الصناعي يسهم في تحسين كفاءة الإنتاج وابتكار حلول تساعد على تجاوز التحديات التقليدية في الصناعة والخدمات.
ويمتد أثر هذه البيئة التكنولوجية ليشمل تمكين المشاريع الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل قاعدة الإنتاج الوطني ومحركًا رئيسيًا للتشغيل. فعندما تتوافر لها البنية الرقمية المناسبة، ومساحات العمل التقنية، وخدمات النمذجة والتصنيع السريع، تصبح هذه المشاريع أكثر قدرة على تطوير منتجات ذات جودة أعلى وكلفة أقل، وأكثر استعدادًا لدخول أسواق جديدة. كما يمنحها الوصول إلى أدوات المستقبل إمكانية تحويل الأفكار إلى نماذج أولية ثم إلى منتجات قابلة للتسويق خلال فترات زمنية قصيرة، وهو ما يعزز قدرتها على الابتكار والمنافسة.
ويظهر أثر التكنولوجيا بوضوح في رفع القيمة المضافة للمنتجات الوطنية، عبر تقليل الاعتماد على المستوردات ودعم المحتوى المحلي في سلاسل التوريد الصناعية. فالهندسة العكسية والفحص الرقمي وإدارة البيانات الصناعية تتيح تصنيع قطع عالية الدقة، وتطوير منتجات بمواصفات عالمية، وتقديم حلول بديلة للصناعات التي تعاني من فجوات في التوريد أو كلف إنتاج مرتفعة. وبهذا يتحول المنتج الوطني إلى منتج منافس قادر على تلبية احتياجات القطاعات المختلفة بثقة وكفاءة.
ويمثل تمكين الشباب عنصرًا أساسيًا في هذه المنظومة، فهم الأكثر قدرة على التعامل مع الأدوات الرقمية والبرمجيات الهندسية والتقنيات الذكية. وتوفير التدريب المتخصص، وحاضنات الابتكار، ومراكز التصنيع الرقمي يساهم في خلق جيل من رواد الأعمال القادرين على تصميم منتجات جديدة، وتطوير خدمات تعتمد على التقنيات المتقدمة، وتحويل المشاريع الصغيرة إلى شركات مبتكرة ذات أثر اقتصادي حقيقي. إن الاستثمار في مهارات الشباب يشكل استثمارًا مباشرًا في مستقبل الصناعة الوطنية.
أما بناء البيئة التكنولوجية بفاعلية فلا يتحقق إلا من خلال منظومة شراكات متكاملة بين القطاعين العام والخاص والجامعات ومراكز البحث والتطوير. إذ تمثل هذه الشراكات إطارًا موحدًا لتطوير السياسات الداعمة، وتقديم الحوافز الاستثمارية، وتعزيز البحث التطبيقي، وفتح المجال أمام الابتكار الصناعي. كما تضمن وجود تشريعات مرنة وتشجيع المحتوى المحلي، بما يرسخ دور التكنولوجيا كرافعة رئيسية لبرنامج “صنع في الأردن” برؤية حديثة تقوم على الابتكار.
وبهذا التوجه، يصبح تطوير البيئة التكنولوجية ليس مجرد مشروع تقني، بل مشروعًا وطنيًا ينتقل بالأردن نحو اقتصاد متنوع قائم على المعرفة، وقادر على إنتاج قيمة مضافة حقيقية، ويمنح المشاريع الصغيرة والمتوسطة موقعًا متقدمًا في عملية التنمية. إنها خطوة نحو إعادة تموضع الاقتصاد الوطني في مشهد عالمي يقوده الابتكار، ويستند إلى قدرة الدول على تحويل التكنولوجيا إلى فرص عمل، وإلى منتجات منافسة، وإلى منظومة إنتاج تعتمد على الكفاءة والإبداع.
*رئيس مركز رواد الاعمال المهندسين في نقابة المهندسين ( رام )




