
رقمنة
*د. حمزه العكاليك
لم يعد الامتثال التنظيمي في القطاع المالي مجرد إجراء إلزامي أو عبء ثقيل يفرضه القانون، بل أصبح اليوم فرصة استراتيجية لإعادة بناء الثقة مع العملاء وتعزيز سمعة المؤسسات، إضافة إلى كونه أداة تنافسية قادرة على دفع عجلة الابتكار. فالمؤسسات التي كانت تنظر للامتثال باعتباره تكلفة لا مفر منها، بدأت تدرك أن الاستثمار في التقنيات الحديثة، ولا سيما التقنيات التنظيمية (RegTech)، يمنحها ميزة نوعية في سوق يتغير بسرعة، ويضعها في موقع متقدم أمام تحديات الحاضر والمستقبل.
تقوم التقنيات التنظيمية على الدمج بين القانون والتكنولوجيا، وتسخير أدوات مثل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي وتحليل البيانات الضخمة لتسريع عمليات الامتثال وكشف المخاطر. فبدلاً من مراجعة آلاف المعاملات يدويًا، باتت الأنظمة الذكية قادرة على تحليلها لحظيًا واكتشاف الأنماط غير الاعتيادية فور وقوعها. هذه القدرة لا توفر الوقت والتكلفة فحسب، بل تعزز أيضًا من قدرة المؤسسات على حماية نفسها من المخاطر التشغيلية والقانونية، وبناء ثقة أكبر مع الجهات الرقابية.
ومن أبرز ما يقدمه الذكاء الاصطناعي في هذا السياق هو المراقبة في الوقت الفعلي، إذ يمكنه رصد محاولات غسل الأموال أو تمويل الإرهاب بدقة عالية وسرعة استجابة كبيرة. كما توفر التحليلات التنبؤية إمكانية التنبؤ بالتهديدات قبل وقوعها، مما يضع المصارف والهيئات الرقابية في موقع استباقي يحصّن النظام المالي ضد الجرائم المالية المعقدة. فالمؤسسات التي كانت تلاحق المخاطر بعد حدوثها أصبحت اليوم قادرة على مواجهتها قبل أن تتفاقم.
لكن هذا التحول الرقمي لا يخلو من تحديات أخلاقية وقانونية معقدة. أبرزها ما يعرف بـ الصندوق الأسود، حيث يصعب تفسير آليات اتخاذ القرار داخل أنظمة الذكاء الاصطناعي. فعندما يرفض النظام معاملة مالية أو يصنف عميلًا على أنه عالي المخاطر دون تقديم مبررات واضحة، وهنا يثار سؤال جوهري حول الشفافية والعدالة والمساءلة. فهذه المخاوف تجعل من الضروري وجود أطر حوكمة صارمة تضمن أن تكون القرارات الصادرة عن الأنظمة الذكية قابلة للتفسير والمراجعة.
وللتغلب على هذه الإشكالية، برزت مبادئ أساسية للذكاء الاصطناعي الجدير بالثقة، أهمها: العدالة وتخفيف التحيز عبر تصميم أنظمة تراعي التنوع وتمنع التمييز، والشفافية وقابلية التفسير (XAI) لضمان أن القرارات قابلة للفهم والمراجعة، والمساءلة وقابلية التدقيق لتحديد المسؤولية القانونية والأخلاقية عن مخرجات هذه الأنظمة. هذه المبادئ ليست مجرد شعارات، بل ضرورة لبناء ثقة مستدامة مع العملاء والمشرعين على حد سواء.
وفي الأردن، أدرك البنك المركزي مبكرًا أهمية هذا التحول، فأطلق الاطار الأخلاقي للذكاء الاصطناعي في القطاع المالي كخطوة استراتيجية لتمكين المؤسسات المصرفية من الاستفادة من الذكاء الاصطناعي ضمن إطار منظم يوازن بين الابتكار والحوكمة. هذه السياسة لم تكتفِ بدعم تبني التكنولوجيا، بل ركزت أيضًا على إدارة المخاطر وتعزيز الشفافية، وضمان أن استخدام الذكاء الاصطناعي في الخدمات المالية يخدم المصلحة العامة ويعزز حماية المستهلك. كما وضعت السياسة إطارًا متكاملًا للمساءلة، بما ينسجم مع المعايير الدولية ويواكب أفضل الممارسات في الحوكمة الرقمية.
هذا التوجه يعكس وعيًا متقدمًا لدى الجهات التنظيمية الأردنية بأهمية تسخير التكنولوجيا بشكل مسؤول، وعدم ترك الساحة للابتكار غير المنضبط. فالتحدي الحقيقي لا يكمن فقط في إدخال أدوات جديدة، بل في وضع الضوابط التي تجعل هذه الأدوات أداة بناء للثقة والاستدامة، لا مصدرًا لمخاطر إضافية.
ولقد عُرضت هذه الرؤية في مؤتمر اتحاد المصارف العربية تحت عنوان تسخير الذكاء الاصطناعي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب: الفرص والمخاطر والمسار المستقبلي. وكانت الرسالة الأساسية أن مستقبل الامتثال التنظيمي لن يُبنى على النصوص القانونية وحدها، بل على مدى قدرة المؤسسات والمشرعين على تحويل التكنولوجيا إلى قوة إيجابية، عبر دمج مبادئ العدالة والشفافية والمساءلة في صميم أنظمتها.
في الختام إن الطريق نحو نظام مالي أكثر أمانًا واستدامة يمر عبر تبني التقنيات التنظيمية والذكاء الاصطناعي المسؤول. فالمؤسسات التي تنجح في هذا المسار لن تكون فقط أكثر امتثالًا، بل أكثر قدرة على الابتكار وبناء الثقة. فالتكنولوجيا، وإذا ما أُحسن توظيفها في إطار من الحوكمة الرشيدة، لن تكون صندوقًا أسود يثير القلق، بل صندوق أمان يعزز النزاهة ويحصّن الاقتصاد. إنها لحظة حاسمة، وعلى المؤسسات أن تختار: إما أن ترى الامتثال عبئًا، أو أن تدرك أنه بوابة نحو مستقبل مالي أكثر عدالة وشفافية وثقة.
*خبير في مجال التقنية والبيانات