حين تتسع الشاشة وتضيق الحياة.. أطفال في عزلة رقمية

2

رقمنة

بلغة عدوانية وصراخ مستمر، اعتاد الطفل “سيف” في أعوامه الستة، منذ ساعات الصباح الباكر، البحث عن هاتفه الذكي ليبدأ مغامراته متنقلا بين الألعاب الذكية، حيث اعتاد أن يبدأ نشاطه بأعصاب مشدودة على وقع النقرات، ولا يختم ليله إلا بوميض الهاتف.
يواصل الطفل صراعه مع الأهل عند الطعام، وسط تفضيله الهاتف على كل النشاطات اليومية، وفق ما أوضحته لنا والدته، حيث يجلس على أريكته الصغيرة بصحبة هاتفه، يفرغ فيها براءته على وقع العنف الذي تبديه الألعاب، يضحك حينا ويصمت أغلب الأحيان، وسط غياب التفاعل واللعب و”القرقرة”، أي صوت النشاط والمرح الناتج عن فرط الحركة والجهد، الذي يعد ركنا أساسيا في تكوين شخصيته وهويته.
ظاهرة الإدمان على الشاشات ليست قصة سيف، وحده، بل حكاية باتت تتكرر في آلاف البيوت الأردنية، حتى أصبحت واقعا مفروضا على هذا الجيل برمته؛ أطفال يقضون على الأجهزة الذكية ما يزيد على 5 ساعات يوميا، في ظل غياب البدائل أو ضعف الرقابة، لتتحول هذه الأجهزة الصغيرة إلى “أوطان رقمية”.
وتقول الاستشارية النفسية الأسرية والتربوية، حنين البطوش، إن الشاشات الرقمية تأسر الطفل، تجعله مشدود النظرات، منشغل الأصابع، في بيئة افتراضية مليئة بلقطات تسلب الانتباه والتفكير، وتزرع في قلبه الخوف والقلق بشكل لا إرادي، عبر مشاهد متلاحقة مصممة بإتقان بصري، وألوان جذابة، وشخصيات مثيرة، وهذا هو سر الانجذاب الكبير لها.
وأضافت أن هذا الانغماس المفرط يثير القلق تجاه ما تتركه هذه المشاهد من آثار نفسية وسلوكية، قد تضعف من تركيز الطفل وتؤثر على تحصيله الدراسي وتفكيره المستقبلي تارة، وتحمل تأثيرات نفسية تشكل وسيلة للتعبير عن الذات، تارة أخرى.
وأشارت إلى أن الشاشات الرقمية عززت من التواصل مع الأصدقاء، وشكلت شعورا بالانتماء داخل مجتمعات افتراضية، تتيح محتوى تعليميا وترفيهيا، يشكل السلوك والمعرفة حينا، ويعزز الانسجام والانجذاب للمحتوى حينا آخر.
وحذرت البطوش، من آثار الاستخدام المفرط للشاشات، لارتباطه بارتفاع مستويات القلق والاكتئاب، وانخفاض احترام الذات، نتيجة المقارنات الاجتماعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مبينة أن الجلوس الطويل أمام الشاشات يقلل من التفاعل الواقعي والنشاط البدني، ما يعزز الشعور بالعزلة، كما يؤثر الضوء الأزرق الصادر عنها سلبا على النوم والمزاج.
وأوضحت أن بعض المحتويات العنيفة تؤدي إلى صدمات نفسية لدى الأطفال، وتدفعهم لتقليد سلوكيات عدوانية، ما يعزز ميولا معادية وفقدان الاهتمام بالنشاطات المفيدة، داعية إلى ترسيخ قيم التوازن والتوجيه والقدوة الحسنة، وتجنب ترك الأطفال للهو المفرط، لما له من آثار سلبية على البناء الديني والنفسي.
من جانبه، يعتبر المتخصص في معالجة مشاكل النطق لدى الأطفال، محمود الديك، أن الاستخدام المفرط للهواتف الذكية يترك آثارا بالغة على النمو النفسي والعقلي للطفل، ما ينعكس على قدراته اللغوية، موضحا أن الأطفال في سنوات التكوين يحتاجون إلى تفاعل حقيقي، لا إلى أضواء تعزلهم عن اللعب والحوار والتعبير عن المشاعر.
وقال إن التفاعل مع الآخرين هو حجر أساس في تطور مهارات الطفل الاجتماعية والعاطفية، حيث يعتبر الإفراط في استخدام الشاشات، خاصة قبل سن 5 سنوات، عاملا يقلل من فرص اللعب الحر، والتواصل الوجاهي، والحديث مع الآخرين، ما يؤدي إلى تراجع في نمو المهارات الاجتماعية.
وأشار الديك، إلى أن الأطفال يفضلون التفاعل مع المحتوى الرقمي أكثر من التفاعل مع البشر، ما يؤدي إلى ميول للعزلة والانطواء، داعيا إلى تعزيز مهارات اللعب الحر (خارج الشاشات) لدى الأطفال باعتباره الوسيلة الطبيعية التي يطور بها الطفل مهارات مثل التفاوض، وحل المشكلات، والتحكم في الانفعالات.
وأكد أن الأبحاث أظهرت أن التعرض المكثف والمبكر جدا للشاشات (قبل عمر 18 شهرا) يؤدي إلى أعراض شبيهة بالتوحد، مثل ضعف التواصل البصري، قلة التفاعل، وتأخر الكلام، لكن هذه الأعراض تتحسن عندما يقلل استخدام الشاشات ويزاد التفاعل الإنساني المباشر، مشيرا إلى أن بعض الباحثين تحدثوا عن ما يسمى بظاهرة “سلوكيات شبيهة بالتوحد” الناتجة عن العزلة الرقمية، وليس التوحد الحقيقي.
بدوره، أكد أستاذ اضطرابات النطق واللغة في جامعة العلوم والتكنولوجيا، الدكتور خالد شديفات، أنه على الرغم من بعض الآثار الإيجابية لاستخدام الأطفال للشاشات، كتعرضهم لقيم ثقافية ولغوية مختلفة، ولبقائهم منشغلين بشكل آمن خصوصا عند متابعة ما يشاهدون من قبل ذويهم، إلا أن هناك آثارا سلبية للاستخدام المفرط للشاشات تفوق هذه الفوائد، خاصة في السنوات الأولى من أعمارهم.
وأضاف أن الآثار السلبية للاستخدام المفرط للشاشات تزداد عند الأطفال في السنتين الأوليين من العمر، لتشمل التأثير السلبي على اكتساب اللغة، ومهارات التواصل، وبالأخص الاستيعاب وحصيلة المفردات لدى الطفل، كذلك التأثير على التطور الإدراكي بشكل عام، والمهارات الاجتماعية التفاعلية.
وأشار إلى أن الأبحاث العلمية دلت على أن الاستخدام المفرط للشاشات من قبل الأطفال ما دون سن المدرسة، بشكل عام، يؤدي إلى نتائج سلبية بالغة الخطورة على تطورهم اللغوي والإدراكي، مشددا على أن التأخر في التطور اللغوي والإدراكي يؤدي إلى تأثيرات سلبية بالغة على قدرات الأطفال الأكاديمية المبكرة، مثل القراءة والحساب، وكذلك المهارات الاجتماعية عند دخولهم المدرسة.
ولفت إلى أن منظمة الصحة العالمية توصي بعدم تعريض الأطفال، من عمر الولادة إلى سنتين، إلى الشاشات، وكذلك عدم تعريض الأطفال إلى المشاهدة السلبية للشاشات، ما بين سنتين إلى 4 سنوات، لأكثر من ساعة واحدة يوميا.
وعلى صعيد متصل، تشير دراسة علمية أجراها أستاذ الإعلام في جامعة البترا، الدكتور تيسير أبو عرجة، على 120 طالبا وطالبة في المدارس الحكومية والخاصة في الأردن، إلى أن الفتيات يتأثرن سلبيا بالألعاب الإلكترونية أكثر من الفتيان، نظرا لقلة فرص اللعب في الخارج، ما يدفعهن إلى قضاء وقت أطول في اللعب الإلكتروني داخل المنزل، ما يؤدي إلى عزلة اجتماعية.
وأشارت الدراسة إلى أن أبرز الفوائد المعرفية للاعتدال في استخدام الألعاب الإلكترونية، هو مساهمتها في تنمية القدرات الذهنية، وتوسيع الخيال، وتعزيز أساليب التفكير، بالإضافة إلى تقديم معلومات وأفكار جديدة، كذلك، تساهم في تعزيز مهارات التواصل الاجتماعي، حيث تساعد الألعاب على تكوين صداقات جديدة عبر الإنترنت، خاصة أن العديد من هذه الألعاب تتطلب الاتصال بشبكة الإنترنت والتفاعل مع لاعبين من مختلف أنحاء العالم، مما يوسع دائرة معارفهم.

بترا ( محمد المومني )

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد