رقمنة
*خالد الاحمد
بعد غياب استمر لسنوات ، عادت الأسطورة الاستثمارية ومحللة الانترنت ماري ميكر بتقرير جديد تناول كيف انتقل الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة الى قوة تصوغ الاقتصاد والسياسة والمعرفة والعمل والهوية البشرية .
وفي التسعينيات، حين كان الإنترنت في بداياته، بدأت ميكر بكتابة تقارير عن “اتجاهات الإنترنت”، فكانت أول من كشف عن صعود التجارة الإلكترونية، وهيمنة الهواتف الذكية، ودخول الصين إلى السباق الرقمي ، حيث تم وصف تقاريرها لاحقًا بأنها ليست مجرد تحليلات، بل “قراءات مستقبلية دقيقة”، وتم اعتمادها في مجالس إدارات شركات كبرى مثل قوقل وامازون .
وتُدشّن ميكراليوم مرحلة جديدة مع إصدارها الجديد بعنوانTrends – Artificial Intelligence مايو 2025“ وهي لا تتحدث فيها فقط عن الإنترنت… بل عن ذكاء يتجاوز الإنترنت نفسه.
ويتضح من تقريرها ان الذكاء الاصطناعي هو مسار التحول القادم للعالم. لكن الاستفادة الحقيقية منه ليست في “ترديد” المصطلحات، بل في حل المشاكل الواقعية، وبناء منتجات مفيدة، وقيادة فرق بشرية تفهم التقنية وتُطوّعها.
وابرز ما تناوله التقرير عدد من الزلازل التقنية التي تهزّ العالم ، اولها من حيث تبنّي المستخدمين والتي اظهرت انها أسرع من أي شيء سبق ، ففي الوقت التي تم به سرعة الوصول الى 365 مليار عملية بحث سنويا فقد استغرق وصول Google لها 11 سنة فيما استغرق وصول ChatGPT لها سنتان فقط .
وهذه ليست مجرد أرقام بل هذه لغة عالم يتغيّر بوتيرة تتجاوز فهمنا التقليدي ، حيث يتميز الذكاء الاصطناعي بانه ليس في جيب النخب ، بل في جيب كل شخص يحمل هاتفًا.
وثانيها الاستثمار والسباق العالمي بالأصفار الكبيرة ، ويظهر ذلك من انفاق شركات التكنولوجيا الأمريكية الست الكبرى من Microsoft إلى Meta – وغيرها أكثر من 212 مليار دولار على الذكاء الاصطناعي في عام واحد فقط .
وفي الجهة الأخرى، تتحرك الصين بخطة دقيقة حيث يحقق نموذج Qwen من Alibaba أداءًا منافسًا لـ GPT-4 وClaude. ، بينما تُراهن أمريكا على “السرعة”، وتراهن الصين على “الانفتاح + الاستقلالية ” وما نراه ليس تنافس شركات… بل تشكُّل نظام جيوتقني عالمي جديد .
وثالثها سوق العمل حيث ان مهارات الأمس لم تعد تكفي ، والوظائف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي ارتفعت بنسبة 448%، في مقابل انخفاض 9% في وظائف تكنولوجيا المعلومات التقليدية .
ورابعها اننا في سباق عالمي شرس وظهور نماذج مفتوحة المصدر ، حيث نرى الصين تسابق الزمن لتطوير نماذج محلية تقلّد النماذج الغربية ، والمجتمعات مفتوحة المصدر تبتكر بوتيرة مذهلة، ما يقلل من تفوق الشركات الكبرى ، كما يبين التقرير ان من يقود الذكاء الاصطناعي اليوم، قد لا يقوده غدًا.
وخامسها ان الأرباح لا تزال بعيدة رغم الضجة ، وقد حققت OpenAI 3.7 مليار دولار في 2024، لكنها أنفقت أكثر على البنية التحتية ، ونلاحظ ان الكثير من الشركات تعمل بخسارة حاليًا، على أمل الريادة المستقبلية ، والذكاء الاصطناعي حاليا مثل Uber في بدايته ، استثمار ضخم، وعائد غير مضمون .
والنقطة السادسة في التقرير ان 73% من نصوص نموذج GPT-4.5 تم تفسيرها على أنها بشرية في اختبارات مستقلة ، وهذا يعني أن الذكاء الاصطناعي بات يكتب مثل البشر – وهو تطور له آثار كبيرة على الإعلام والتعليم والتواصل.
فيما الملاحظة السابعة تبين ان سوق العمل تحول جذريًا وان الوظائف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي زادت بنسبة 448%. فيما تراجعت وظائف البرمجة التقليدية ، وهنا فان من لا يطوّر مهاراته في الذكاء الاصطناعي سيواجه خطر التراجع أو الاستبدال .
وثامنا فان من ألامثلة على الاستخدام الواقعي ان اطباء Kaiser يستخدمون “كاتب طبي ذكي” لتوثيق الزيارات ، و27% من رحلات أوبر في سان فرانسيسكو تتم بسيارات ذاتية القيادة ، كما صادقت FDA على 223 جهازًا طبيًا مدعومًا بالذكاء الاصطناعي في عام واحد فقط.
وتاسعا عند النظر الى الذكاء الاصطناعي كقوة جيوسياسية ، فان الصين لديها عدد روبوتات صناعية أكبر من العالم بأكمله ، وتصف ماري الذكاء الاصطناعي بأنه “استراتيجية وطنية” للدول ومن يقود الذكاء الاصطناعي سيقود الاقتصاد العالمي .
وهناك تساؤل : هل تعني هذه الأرقام نهاية بعض المهن ؟ الجواب ربما، لكن الأهم: بداية مرحلة جديدة من الإنسان المعزّز بالآلة .
وهل هناك جانب مظلم ؟ الاجابة نعم… والضوء يأتي من الوعي ، والتقرير لا يُجمل المشهد ، بل يحذر من الاستخدام العسكري للذكاء الاصطناعي ، والتحيّزات الأخلاقية في البيانات والتهديدات لخصوصية الأفراد ، والاعتماد المفرط على الآلة ولكنه لا ينشر القلق ، بل يقدّم مبدأ ” ان الخوف وحده لا يكفي… يجب أن يُقابل بالحكمة والحوكمة.”
وفيما يتعلق بالعالم العربي فان هناك فرصة ذهبية ، ولكن السباق لم يبدأ بعد ، فاذا كانت أمريكا تسابق في التقنية، والصين تُراكم السيادة الرقمية، فإن العالم العربي أمام لحظة نادرة واللحاق بالركب ليس مستحيلًا… بل قد يكون أقصر من أي وقت مضى ولاحظنا ان السعودية بدات باطلاق مراكز ذكاء سيادي ، والإمارات تدخل السباق التعليمي بقوة ، كما ان الأردن ومصر تحركتا نحو بناء الكفاءات التقنية
ولكن هذا لا يكفي إن لم يتم إطلاق نماذج ذكاء خاصة بنا بلغتنا وسياقنا ، ودمج الذكاء الاصطناعي في التعليم والعمل الحكومي ، بناء سياسات أخلاقية وتنظيمية تتناسب مع ثقافتنا .
من الضروري ان نقول ان عصر الذكاء ليس قادمًا… بل بدأ منذ الأمس ، فيما تقول ميكر في تقريرها ان “الذكاء الاصطناعي ليس طفرة تقنية، بل إعادة هندسة لكيفية تفكير البشرية.”
وهنا لا بد من تجاوز السؤال بصيغة “هل سنستخدم الذكاء الاصطناعي؟”، الى صيغة ” هل سنكون طرفًا في تطويره؟ أم مستهلكين فقط لنتائجه ؟
وفي الختام لا بد من استعراض قراءة نايت التحليلية وتقديم بعض النصائح لا سيما ان الناس يستخدمون ChatGPT، لكن نصفهم قلقون من تأثير الذكاء الاصطناعي ، والشركات تبدو وكأنها “تبنت” الذكاء الاصطناعي، بينما في الواقع الموظفون يتجنبونه ، والنصيحة هي انك لا تعتمد على عدد المستخدمين فقط ، بل على الفائدة الحقيقية والاعتماد الفعلي داخل الفرق.
كما ان القيمة موجودة في الاستخدام العملي، لا في الضجيج ، والذكاء الاصطناعي يحقق أرباحًا حقيقية في قطاعات مثل الطب، المدفوعات، والصناعة ، فيما تفتقر الاستخدامات الاستهلاكية غير المستقرة إلى نموذج ربحي قوي .
ولا بد من التركيز على حالات استخدام قوية وواقعية تربط التقنية بالمشكلة خاصة وان النماذج ذكية على الورق ، لكن في بيئات العمل المعقدة، تظهر مشاكل التكامل مما يدعو الى وجوب تجهيز البنية التحتية، والتقييم، والتدريب البشري قبل اعتماد الذكاء الاصطناعي فعليًا.
ولا بد من ايضاح ان “الوكيل الذكي” ليس اختصارًا سحريًا ، وان استخدام الوكلاء (AI Agents) ممكن، لكن في نطاق ضيق جدا وتحت رقابة دقيقة ، واي نظام بدون تقييمات مستمرة وحوكمة، قد ينتهي بكارثة.
كما ان المعرفة الضمنية لا يمكن ترميزها ، كما ان السياسة الداخلية، والحدس، والعلاقات لا تظهر في البيانات ، فان الذكاء الاصطناعي ينجح عندما تكون البيانات واضحة… ويخفق في التعامل مع “ما لا يُقال“.
ولا بد من التاكيد على ان الإنسان يظل الأفضل في الحكم، والذوق، والمثابرة ، وان القرارات الحاسمة، والتقدير الجمالي، والإصرار عبر السنوات ، هي أشياء لا يمتلكها الذكاء الاصطناعي .
واخيرا فلا بد من ايضاح ان مفتاح النجاح هو الذكاء الاصطناعي + قائد يفكر على مدى 7 سنوات ، وان الاقتصاد يتسارع بشكل أسرع من السياسات ، وتكلفة النماذج تنخفض بسرعة، لكن تنظيمها الحكومي بطيء ، وهذا يستدعي إعداد أدوات التقييم والشفافية منذ اليوم الأول
*مستشار العلامة الشخصية
التعليقات مغلقة.