مقالات

الخبير في مجال التقنية وصفي الصفدي يكتب لـ ” رقمنة” : التقنية بلا روح….. أداة بلا معنى

رقمنة 

*وصفي الصفدي

في خضم السباق المتسارع نحو التحول الرقمي والأتمتة، تقف المؤسسات أمام مفترق طرق استراتيجي حاسم: هل الغاية من التكنولوجيا هي تعظيم الكفاءة التشغيلية وخفض التكاليف، أم تمكين تجربة إنسانية أعمق تعيد تعريف العلاقة بين المؤسسة والمواطن أو العميل؟

رغم أن الأتمتة تعدّ خيارًا مغريًا لما تحققه من سرعة وتقليل في الجهد والتكلفة، فإنها تتحول في كثير من الأحيان إلى فخّ صامت حين تنسى جوهرها الإنساني. فـ التقنية التي لا تضع الإنسان في مركزها، تتحول إلى منظومة بلا روح، أداة بلا معنى.

الوجه الآخر للأتمتة: حين تفقد التقنية إنسانيتها

في مجالات الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي، تتجلى المفارقة الكبرى: كلما ازدادت الأنظمة ذكاءً من الناحية التقنية، زادت احتمالية فقدانها الحسّ الإنساني إن لم تُصمم بعناية.

فعندما تحل الأنظمة الآلية محل نقاط التفاعل البشرية دون أن تراعي البعد العاطفي أو الحاجة إلى التواصل، فإنها تُنتج تجربة باردة، منفّرة، ومحبطة. المواطن أو العميل لا يبحث فقط عن إنجاز المعاملة، بل عن الإحساس بالاهتمام والاحترام.

لقد شهدنا مؤخرًا مؤسسات تطبق تقنيات الرد الآلي أو الدردشة الذكية فقط لإثبات الحداثة، لا لخدمة المستخدم فعلاً. النتيجة؟ تجارب مليئة بالإحباط، وولاء يتآكل، وثقة تُفقد بسرعة.

حين تتحول الأتمتة إلى عائق

قد تُصمم الأتمتة في الأصل لتبسيط المهام وتسريع الخدمات، لكنها تتحول أحيانًا إلى تجربة مُحبِطة حين تُنفذ دون فهمٍ عميق لتوقعات العميل وسلوكه.
فمن أكثر التجارب التي تثير الضيق تلك التي يواجهها المستخدم مع أنظمة الرد الآلي (IVR) المعقدة، والتي تفرض عليه المرور عبر سلسلة من القوائم الصوتية المتشابكة دون الوصول السريع إلى مبتغاه. يجد العميل نفسه مضطرًا لتكرار البيانات، والتنقل بين خيارات لا تنطبق على حاجته، فيشعر وكأنه عالق في متاهة بلا مخرج.

بدل أن تُيسّر عليه، تُثقله. وبدل أن تُسرّع خدمته، تُبطئها. وبدل أن تُشعره بالاهتمام، تجعله يشعر بالتجاهل.

ولا يختلف المشهد كثيرًا في القنوات الرقمية. فكثير من المؤسسات استبدلت التواصل البشري برسائل بريد إلكتروني آلية جامدة في لغتها وإجراءاتها، تُلقي على العميل تعليمات جاهزة أو خطوات إلزامية دون أي تعاطف أو مرونة.
هذه الردود لا تُساند المستخدم ولا تُظهر تفهّمًا لاحتياجه، بل تُشعره بأنه يتعامل مع نظام يُملي عليه ما يفعل بدلاً من أن يساعده في حل مشكلته.

في مثل هذه التجارب، تتبدد الثقة تدريجيًا. فالمواطن أو العميل لا يطلب معجزة تقنية، بل يتوق إلى تجربة يشعر فيها بأنه مسموع ومفهوم.
أما المؤسسات التي ألغت التفاعل الإنساني المباشر دون تبني رؤية تتمحور حول العميل، فهي غالبًا أول من يدفع ثمن ذلك عبر فقدان ولاء الجمهور وازدياد الشكاوى، مهما بدت أنظمتها متطورة على الورق.

التجربة النموذجية: التقنية التي تفهم الإنسان

في المقابل، نجد تجارب ناجحة مثل نتفليكس (Netflix) التي جعلت من الذكاء الاصطناعي أداة لخدمة التجربة الإنسانية لا لاستبدالها.
فقد سخّرت الشركة خوارزميات التوصية الذكية لتبسيط تجربة المستخدم وتخصيصها، فوفّرت له ما يناسب ذوقه دون عناء البحث في بحرٍ من الخيارات.

النتيجة: علاقة عاطفية بين المستخدم والمنصة، ولاء متزايد، وتجربة تفاعلية تُشعر كل فرد بأنه مفهوم ومُقدّر.
هكذا تصبح التقنية وسيلة لتعزيز الإنسانية، لا لإلغائها.

التحول الرقمي الإنساني: ثلاث ركائز أساسية

حتى تتجنب المؤسسات فخّ “الأتمتة العمياء”، عليها أن تتبنى نهجًا إنسانيًا في كل مبادرة رقمية من خلال ثلاث ركائز جوهرية:

  1. قياس الأثر الإنساني لا التشغيلي فقط:
    يجب أن تقترن كل مبادرة أتمتة بمؤشرات أداء مزدوجة: كفاءة تشغيلية (مثل تقليص الوقت أو التكلفة) إلى جانب مؤشرات تجربة المستخدم (مثل درجة الرضا أو سهولة الوصول). فالمشروع الذي يُحسن الكفاءة لكنه يُضعف تجربة المواطن، هو مشروع ناقص الرؤية.
  2. التصميم لانتقال إنساني سلس:
    الأنظمة الذكية يجب أن تعرف حدودها. فحين يعجز النظام عن الفهم أو يُظهر المستخدم إحباطًا، ينبغي أن يكون الانتقال إلى موظف بشري سلسًا وسريعًا. التقنية ليست حاجزًا، بل جسرًا.
  3. الذكاء الاصطناعي كأداة تمكين لا بديل:
    على المؤسسات الاستثمار في أدوات تعزز أداء الإنسان لا تستبدله، مثل الأنظمة المساعدة للموظفين في اتخاذ القرار أو تقديم إجابات أسرع وأكثر دقة، دون أن تُفقد التجربة دفئها الإنساني.

الخلاصة: التقنية في خدمة الإنسان لا العكس

لقد آن الأوان أن تدرك المؤسسات أن التحول الرقمي الحقيقي ليس في عدد الأنظمة أو التطبيقات، بل في عمق التحول في تجربة المواطن. فالتقنية التي توفر المال وتفقد الإنسان، هي استثمار خاسر على المدى البعيد.
إن نضج أي منظومة رقمية يُقاس بمدى قدرتها على تحسين حياة الأفراد، لا فقط على تقليص النفقات.

في النهاية، الأتمتة ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لتكريم التجربة الإنسانية .”فالتقنية بلا روح… أداة بلا معنى.”

*خبير في مجال التقنية والاتصالات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى