
رقمنة
*وصفي الصفدي
في خضمّ عالم يضجّ بالمعلومات المتدفقة، وتتشابك فيه الحقائق بالأكاذيب، وتتراقص فيه الأصوات المتطرفة، يبرز نداءٌ إلهي وفطري يتردد صداه منذ فجر البشرية: إعمال العقل، والتفكر، والتبين. هذا النداء ليس مجرد وصية، بل هو صمام أمان وسبيل وحيد للتحرر من عبودية الفكر، ومن الوقوع في شراك التزييف العميق الذي بات سمة لعصرنا.
من أغلال التقليد إلى نور البصيرة
يولد الإنسان بفطرته حُرّاً، مزوداً بقدرة لا محدودة على التساؤل، والابتكار، والبحث عن الحقيقة. لكن هذه الحرية كثيراً ما تُقَيَّد بأغلال الأفكار الموروثة، والتقاليد الجامدة، والتبعية العمياء لما وجدنا عليه آباءنا أو ما يروج له المجتمع دون تمحيص. هذه “العبودية الفكرية” تُخالف جوهر التكريم الإلهي للعقل، وتُقصي الإنسان عن مساره الطبيعي نحو النمو والتطور.
لقد دعانا الله تعالى في محكم تنزيله مراراً وتكراراً إلى التدبر، والتعقل، والتفكر. آيات مثل “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟” و”إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” ليست مجرد تلاوات، بل هي أوامر صريحة بتفعيل ملكة العقل، والبحث عن البراهين والأدلة، لا الانجرار خلف الظنون والأوهام. والأمر الإلهي الأول “اقرأ” ليس دعوة للقراءة الحرفية فحسب، بل هو إشارة عميقة إلى أن العلم والمعرفة هما المفتاح الأساسي لفك أغلال الجهل، وتنوير البصيرة، وتأسيس القناعات على أسس راسخة.
العلم والمعرفة: درعنا في زمن التحديات
اليوم، ومع التطور التكنولوجي غير المسبوق، أصبح دور العلم والمعرفة أكثر أهمية وتعقيداً. نحن نعيش في عصر زخم المعلومات غير المسبوق، حيث يسهل تداول الأكاذيب والشائعات بسرعة تفوق سرعة انتشار الحقائق. هذا الزخم الهائل يُصاحبه ظاهرة خطيرة تتمثل في فبركة الحقائق، واستخدام تقنيات متطورة مثل الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق (Deepfake) لخلق محتوى مرئي وسمعي مزيف يبدو حقيقياً بشكل مخيف.
هذه التقنيات، التي يمكن أن تكون أدوات قوية للتطوير والتقدم، أصبحت للأسف سلاحاً غير أخلاقي في أيدي المتطرفين والمتعصبين. يستغل هؤلاء العواطف البشرية، ويعمدون إلى تزييف الحقائق وتصعيد الشائعات من خلال محتوى مزيف عالي الجودة بهدف:
- تحييد الحقائق: طمس المعالم الحقيقية للأحداث وتشويه الصورة.
- جرنا إلى ما لا يحمد عقباه: دفع المجتمعات نحو الفتنة، والصراعات، والتطرف، والانقسام.
- استغلال العواطف: اللعب على وتر المشاعر لخلق انفعالات قوية تحول دون التفكير العقلاني.
في ظل هذه الهجمات الرقمية الممنهجة، والاندساس المتعمد لتشويه الوعي، يصبح التزامنا بما نادى به الله “يا أولي الألباب” (أصحاب العقول النيرة) ليس خياراً، بل ضرورة وجودية.
خارطة طريق ليقظة العقول
لتحرير عقولنا والنجاة من فخاخ التزييف، يجب علينا أن نلتزم بخارطة طريق واضحة ترتكز على المبادئ التالية:
- الارتكاز على المصادر الموثوقة: قبل تصديق أو نشر أي معلومة، يجب التثبت من مصدرها. هل هو مصدر علمي موثوق؟ هل هو جهة إخبارية محايدة ومعروفة بالدقة والموضوعية؟
- التفكير النقدي: لا تقبل المعلومة على علاتها. اطرح الأسئلة: ما هو هدف هذه المعلومة؟ هل هناك تحيز محتمل؟ ما هي الأدلة التي تدعمها؟
- التمييز بين الرأي والحقيقة: الكثير مما يتم تداوله هو آراء شخصية أو تفسيرات، وليست حقائق ثابتة. يجب التمييز بينهما بوضوح.
- الحذر من المحتوى البصري والصوتي: في عصر التزييف العميق، لا يكفي الاعتماد على ما نراه أو نسمعه. يجب البحث عن أدلة إضافية والتشكيك في أي محتوى يبدو غريباً أو مبالغاً فيه.
- تجنب الانجرار خلف الغوغائيات والتعصب: المشاعر الجماعية يمكن أن تُعمي البصيرة. ابتعد عن التجمعات الفكرية التي لا تشجع على الحوار والتساؤل، وتجنب الخطابات التي تغذي الكراهية والتطرف.
- تنمية الثقافة الرقمية: تعلم كيفية عمل تقنيات التزييف، وكيفية التحقق من صحة الصور والفيديوهات، وكيفية التعرف على الأخبار الزائفة.
إن يقظة العقل ليست مجرد هدف أكاديمي، بل هي مسؤولية أخلاقية ودينية تقع على عاتق كل فرد منا. في عصر تتسارع فيه وتيرة التغيير وتزداد فيه تعقيدات الواقع، يبقى العلم والمعرفة وإعمال العقل هما بوصلتنا نحو الحق، ومفتاح حريتنا، ودرعنا الواقي ضد كل ما يهدف إلى تقييد عقولنا وجرنا إلى الهاوية. لنكن “أولي الألباب” حقاً، بوعينا، وبصيرتنا، وسعينا الدؤوب نحو الحقيقة.
*الخبير في مجال التقنية