
رقمنة
*شاكر خليف
في عالم التكنولوجيا، نادراً ما تأتي الثورات من تقنية واحدة معزولة ، بل تنشأ من التقاء تقنيات متعددة في لحظة تاريخية فريدة حيث يخلق تآزرها قوة تفوق مجموع أجزائهاو هذا بالضبط ما نشهده اليوم في صناعة البناء والتشييد من خلال الثلاثية الذهبية المكونة من نمذجة معلومات البناء (BIM)، والذكاء الاصطناعي (AI)، والروبوتات والتي تتحد لتخلق نظاماً متكاملاً يعيد تعريف كيفية تصميم وبناء وإدارة المباني.
هذه الثلاثية ليست مجرد مجموعة من الأدوات التقنية، بل هي نظام بيئي متكامل يحاكي في تعقيده وتناغمه الأنظمة الحية، فكل عنصر من عناصر الثلاثية يلعب دوراً فريداً لا يمكن لأي عنصر آخر أن يحل محله ، وفي نفس الوقت لا يمكن لأي عنصر أن يحقق إمكاناته الكاملة بمعزل عن الآخرين فهي علاقة تكافلية تخلق قيمة أكبر بكثير من مجموع أجزائها.
العنصر الأول: BIM – الذاكرة الحية للمشروع
ال BIM هو ذاكرة حية ومستودع معرفة شامل يحتوي على كل ذرة من المعلومات المتعلقة بالمبنى وفي الثلاثية الذهبية، يلعب ال BIM دور اللغة المشتركة التي تتواصل من خلالها جميع الأطراف فالمهندسون جميعهم يعملون على نفس النموذج بما يضمن التنسيق الكامل ويقلل من التعارضات ، إلا أن الأهم من ذلك أن ال BIM سيوفر للذكاء الاصطناعي البيانات الضرورية لاتخاذ قرارات ذكية، وللروبوتات الخرائط الدقيقة لتنفيذ مهامها بدقة متناهية و بدون ال BIM سيكون الذكاء الاصطناعي أعمى، والروبوتات ضائعة ، فال BIM هو الأساس الرقمي الذي يُبنى عليه كل شيء آخر في هذه الثلاثية الذهبية ، لذلك تخيل BIM كـدماغ رقمي للمبنى، حيث كل خلية عصبية تمثل عنصراً إنشائياً أو معمارياً مثلا ، وكل اتصال بين الخلايا يمثل علاقة هندسية أو وظيفية و هذا الدماغ الرقمي لا يحتوي فقط على معلومات ثابتة، بل على معلومات دلالية غنية تعطي معنى وسياقاً لكل عنصر .
العنصر الثاني: الذكاء الاصطناعي – العقل المفكر
إذا كان ال BIM هو الذاكرة، فإن الذكاء الاصطناعي هو العقل الذي يفكر ويتعلم ويتخذ القرارات، ففي عالم يتسم بتعقيد متزايد، حيث تحتوي المشاريع الكبرى على ملايين العناصر وتتطلب تنسيقاً بين مئات المتخصصين، لم يعد العقل البشري وحده قادراً على استيعاب كل هذا التعقيد واتخاذ القرارات المثلى في كل لحظة و هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي فيقوم بتحليل كميات هائلة من البيانات من نموذج ال BIM، ومن أجهزة الاستشعار المنتشرة في الموقع، ومن المشاريع السابقة المخزنة في قواعد البيانات، ليستخلص منها أنماطاً ورؤى لا يمكن للعين البشرية أن تراها وهذا يمكّنه من التنبؤ بالمشكلات قبل حدوثها، وتحسين الجداول الزمنية لتقليل التأخيرات، وتخصيص الموارد بكفاءة قصوى، وتنسيق عمل عشرات الروبوتات في الموقع لتجنب التصادمات وتحقيق أقصى إنتاجية.
العنصر الثالث: الروبوتات – الأيدي الماهرة
إن الخطط الأكثر ذكاءً والنماذج الأكثر دقة لا قيمة لها إذا لم تُترجم إلى واقع ملموس ، وهنا يأتي دور الروبوتات، العنصر الثالث في الثلاثية الذهبية فالروبوتات تمثل الأيدي الماهرة التي تحول الأفكار الرقمية إلى مباني حقيقية و علينا أن ندرك بأن روبوتات اليوم ليست مجرد آلات غبية تنفذ تعليمات مبرمجة مسبقاً ، بل هي أنظمة ذكية مجهزة بأجهزة استشعار متقدمة، وقدرات رؤية حاسوبية، وخوارزميات تعلم آلي ، مما يمكنها من التكيف مع الظروف المتغيرة، والتعلم من أخطائها، والتعاون مع روبوتات أخرى وحتى مع البشر في نفس البيئة .
في الثلاثية الذهبية، الروبوتات ليست مجرد منفذسلبي ، إنما هم شركاء نشطون في حلقة تغذية راجعة مستمرة بحيث تتلقى التعليمات من ال BIM والذكاء الاصطناعي، وتنفذها بدقة، ثم ترسل بيانات “كما تم بناؤه” (As-Built) لتحديث النموذج الرقمي بما يضمن أن العالم الرقمي والعالم المادي يظلان متزامنين في كل لحظة بسبب هذا التبادل المستمر للمعلومات .
المستقبل: نحو البناء الذكي المستقل
على الرغم من التحديات المتعددة بسبب صعوبة التكامل التقني و الدمج بين هذه الانظمة بالاضافة الى ارتفاع قيمة الاستثمار الاولي و قلة توفر المهارات البشرية ، فإن مستقبل هذه الثلاثية الذهبية يبدو مشرقاً اذ أنه من المتوقع أن ينمو سوق معدات البناء الذاتية من 4.43 مليار دولار في 2024 إلى 9.86 مليار دولار بحلول 2030، بمعدل نمو سنوي 14.3% ، وفي المستقبل القريب، يمكننا أن نتوقع :
* مواقع بناء ذاتية التشغيل بالكامل
* نماذج BIM حية ومتطورة
* ذكاء اصطناعي تنبؤي
* روبوتات متعددة المهارات
* تكامل مع المدن الذكية
الثلاثية الذهبية – BIM والذكاء الاصطناعي والروبوتات – ليست مجرد مجموعة من التقنيات المتقدمة ، إنها نموذج جديد كلياً لكيفية تصور وتنفيذ مشاريع البناء فهي نموذج يجمع بين دقة البيانات الرقمية، وذكاء الآلات، وقوة التنفيذ الآلي، لخلق نظام متكامل يفوق قدرات أي نظام تقليدي.
هذه الثلاثية لا تغير فقط كيفية بناء المباني، بل تغير أيضاً طبيعة العمل البشري في القطاع، وتفتح آفاقاً جديدة للابتكار والنمو، وتساهم في حل بعض أكبر التحديات التي تواجه البشرية: نقص الإسكان، الحاجة إلى بنية تحتية مستدامة، والتغير المناخي.
إن الشركات والمؤسسات التي ستتبنى الثلاثية الذهبية لن تكتفي بالبقاء في المنافسة ولكنها ستقود مستقبل الصناعة ، أما التي تتردد فقد تجد نفسها متخلفة عن ركب التطور بشكل لا يمكن تداركه .
والسؤال القادم ليس “هل نحتاج إلى الثلاثية الذهبية؟” بل “كيف نتبناها بأسرع وأفضل طريقة ممكنة؟
*الخبير في مجال التقنية والهندسة