مقالات

الخبير في مجال الاعمال الالكترونية الدكتور أحمد غندور يكتب لـ ” رقمنة” : المحتوى الرقمي المحلي…… لماذا لا ننتج؟ ومن يملك السوق؟

رقمنة

*أحمد غندور

في المقال السابق من السلسلة، تحدثنا عن فرص العمل في الاقتصاد الرقمي وكيف أصبحت المنصات الذكية فضاءً جديدًا للعمل والإنتاج. وبيّنا أن المهارات، لا المواقع، هي رأس المال الحقيقي في هذا العالم. واليوم، نكمل هذا المسار في مرحلة التمكين الإنتاجي، لننتقل من “العمل عبر المنصات” إلى “المشاركة في صناعة المحتوى الرقمي” — أحد أهم عناصر القيمة في الاقتصاد الرقمي العالمي.

لكن السؤال الجوهري الذي يجب أن نطرحه هو:
إذا كنا نستهلك يوميًا مئات الساعات من المحتوى على الإنترنت، فلماذا لا ننتج؟
ولماذا يبقى المحتوى العربي محدودًا، رغم أن العرب يمثلون أكثر من 5% من سكان الإنترنت عالميًا؟

الجواب مركّب، لكنه يبدأ من الفجوة بين الجاهزية التقنية والقدرة الإنتاجية.
ففي حين نجحنا خلال المرحلة الأولى من السلسلة في ترسيخ الوعي الرقمي والمهارات الأساسية، ما زال أغلب المستخدمين العرب يتعاملون مع الفضاء الرقمي كمستهلكين، لا كمبدعين. نشارك، نعلّق، نعيد النشر، لكننا نادرًا ما ننتج المعرفة أو نبني محتوى يعكس واقعنا وهويتنا.

المحتوى ليس ترفًا.
إنه مورد اقتصادي، وأداة سيادة ثقافية، ورافعة تعليمية وتنموية.
من يملك المحتوى، يملك السوق — لأن البيانات والمحتوى هما الوقود الحقيقي للاقتصاد الرقمي.

في العالم اليوم، تتحكم شركات قليلة في أكثر من 80% من حركة المحتوى الرقمي عبر خوارزمياتها ومنصاتها. هذا يعني أن من لا ينتج محتواه المحلي، سيظل تابعًا لمنصات الآخرين، يستهلك ما يُصنع له، لا ما يُعبّر عنه.

إذن، ما الذي يمنعنا من الإنتاج؟
الأسباب كثيرة، لكن يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور رئيسية:

أولًا – ضعف البنية المؤسسية للإنتاج الرقمي المحلي.
العديد من الدول العربية لا تمتلك إستراتيجية وطنية لتشجيع المحتوى المحلي، سواء في التعليم، أو الإعلام، أو الثقافة. ما زالت معظم المؤسسات ترى المحتوى بوصفه نشاطًا ثانويًا، لا صناعة قائمة بذاتها.

ثانيًا – غياب منظومة المهارات الرقمية الإبداعية.
المدارس والجامعات لا تُدرّب الطلبة على مهارات صناعة المحتوى: كتابة النصوص الرقمية، تحرير الفيديوهات، إدارة المنصات، التحليل الخوارزمي للجمهور، الذكاء الاصطناعي في إنتاج الوسائط. هذه المهارات يجب أن تُدمج ضمن إطار الرخصة الدولية للقيادة الرقمية (IDDL) في مستواها الثاني المتعلق بالإنتاج الرقمي.

ثالثًا – غياب الحوافز والتشريعات التي تحمي المبدعين.
بدون نظام واضح لحقوق الملكية الفكرية الرقمية، يخشى المنتجون من ضياع جهودهم.
وهذا ما سنتناوله لاحقًا في المقال الخامس عشر حول الملكية الرقمية وحقوق المبدعين في الفضاء الإلكتروني.

ولكي نغيّر هذا الواقع، لا نحتاج إلى حملات آنية، بل إلى رؤية وطنية للمحتوى الرقمي المحلي تقوم على ثلاثة أبعاد مترابطة:
1. البعد الثقافي: ترسيخ إنتاج المحتوى بلغتنا العربية وبسياقنا المحلي، لا كمجرد ترجمة لما يُنتج في الخارج.
2. البعد الاقتصادي: تحويل صناعة المحتوى إلى قطاع اقتصادي حقيقي يُدرّ الدخل ويُشغّل الشباب.
3. البعد المعرفي: بناء قواعد بيانات ومكتبات رقمية عربية مفتوحة تدعم التعليم والبحث والابتكار.

الأردن يمتلك بيئة بشرية مؤهلة لذلك. فلدينا جيل شاب، متصل رقميًا، ومتمكن لغويًا، لكننا بحاجة إلى منظومة تمكّنه من أن يكون منتجًا لا متلقيًا.
المبادرات الصغيرة موجودة، لكننا نحتاج إلى إطار وطني للمحتوى الرقمي المحلي ينسق الجهود، ويدعم المشاريع، ويحفز الابتكار في مجالات الإعلام، التعليم، والتسويق الرقمي.

إن بناء المحتوى المحلي ليس مهمة إعلامية فحسب، بل استراتيجية سيادة رقمية.
حين ننتج محتوى يعكس قيمنا وهويتنا وواقعنا، نشارك في صياغة المستقبل، بدل أن نكتفي بمشاهدته.

بهذا المقال نكمل المسار الطبيعي للمرحلة الثانية من سلسلة محو الأمية الرقمية — مرحلة التمكين الإنتاجي — التي تهدف إلى تحويل المواطن من مستخدم واعٍ إلى منتج مبدع.

وفي المقال القادم، رقم 14، سننتقل إلى بعد جديد في هذا التحول:
الاقتصاد الإبداعي، وكيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة للتمكين لا وسيلة للاستبدال.
سنرى كيف يمكن للمبدع العربي أن يوظف أدوات الذكاء الاصطناعي لتوسيع خياله وإنتاج أعمال تفاعلية تجمع بين الإبداع الإنساني والقدرة الآلية في عالم يتغيّر بسرعة مذهلة.

*متخصص في مجال الاعمال الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى