
رقمنة
* أ.د أحمد غندور
في مقالاتنا السابقة من سلسلة محو الأمية الرقمية، رسمنا معًا ملامح التهيئة الرقمية للمواطن. بدأنا من الحديث عن المهارات الأساسية التي لم تعد رفاهية، ثم توقفنا عند الوعي السيبراني كخط الدفاع الأول، وفتحنا الباب أمام الذكاء الاصطناعي الذي أصبح جزءًا من حياتنا اليومية.
أكدنا أن العالم الرقمي لم يعد خيارًا، بل واقعًا لا مفر منه، وأن البقاء على الهامش يعني خسارة الفرص والمشاركة.
بعد ذلك تحدثنا عن المعيار الوطني كمرجع يحدد ما يجب أن يعرفه المواطن، ثم عن الحوكمة الرقمية التي تضمن أن هذه المعايير لا تبقى مجرد شعارات، بل تتحول إلى واقع ملموس. لكن ما زال هناك سؤال جوهري: كيف يمكن للمواطن أن يدخل فعلًا إلى عالم الدولة الرقمية ويُنجز معاملاته بثقة وأمان؟
الإجابة تبدأ من الهوية الرقمية والتوقيعات الإلكترونية والرقمية.
الهوية الرقمية هي التمثيل الإلكتروني الموثوق لشخصك، الذي يمكّنك من الوصول إلى الخدمات الحكومية، إجراء المعاملات المالية، والتفاعل مع منصات الدولة بسرعة وأمان. تمامًا كما تحتاج جواز سفر للعبور بين الدول، تحتاج هوية رقمية للعبور في فضاء الدولة الرقمية.
غياب هوية رقمية موحدة يعني تكرار إدخال بياناتك في كل منصة، صعوبة التحقق عند المعاملات الحساسة، وارتفاع احتمالات الاحتيال وسرقة الهوية. أما وجود هوية رقمية متكاملة فيعني بوابة واحدة لكل الخدمات، ويمنح المواطن الثقة والانسيابية.
لكن الهوية وحدها لا تكفي. هنا يأتي دور التوقيع الإلكتروني والتوقيع الرقمي. التوقيع الإلكتروني هو مصطلح واسع يشمل أي وسيلة لإثبات هوية الموقّع عبر المنصات الإلكترونية، مثل كتابة الاسم، أو استخدام كلمة مرور، أو رمز يُرسل عبر الهاتف. هو مفيد وسهل لكنه يظل أقل أمانًا، لأنه قابل للتلاعب أو الانتحال. أما التوقيع الرقمي، فهو تقنية متقدمة قائمة على التشفير والبنية التحتية للمفاتيح العامة (PKI)، تضمن هوية الموقّع، وتحمي الوثائق من التغيير، وتمنحها قوة إثبات قانونية تضاهي التوقيع اليدوي أو تتفوق عليه. باختصار: كل توقيع رقمي هو توقيع إلكتروني، لكن ليس كل توقيع إلكتروني هو توقيع رقمي.
الأردن خطا خطوة مهمة عبر تطبيق “سند” الذي يشكل بداية نحو الاعتراف بالمواطن رقميًا، لكنه يظل مجرد بداية. لكي تتحول الهوية الرقمية والتوقيع الرقمي إلى ركيزة وطنية، يجب أن يُبنى عليها إطار قانوني صارم، وتُدمج مع كافة الخدمات، وتُكسب ثقة المواطن باعتبارها جزءًا من مواطنته الرقمية لا مجرد خدمة تقنية.
الهوية الرقمية والتوقيعات (الإلكترونية والرقمية) معًا ليست مجرد أدوات تقنية، بل حقوق مواطنة رقمية. بها ينتقل المواطن من مستخدم عابر إلى شريك فعلي في الدولة الرقمية. وبدونها، ستظل المشاريع الرقمية متناثرة، وتظل الثقة منقوصة.
وبمقال رقم ١٠ نكون قد قطعنا معًا مرحلة تأسيس الجاهزية الرقمية. المرحلة التي وضعت الأساس: مواطن يعرف التكنولوجيا، يفهم مخاطرها، ويحمي نفسه، ويستخدمها بوعي ومسؤولية. لكن الوعي وحده لا يكفي. في العالم الرقمي، من يقف عند حدود الاستخدام يظل مستهلكًا، بينما القيمة الحقيقية تأتي من الإنتاج. هنا تبدأ المرحلة الثانية من السلسلة: التمكين الإنتاجي والتحول نحو الاقتصاد الرقمي.
في هذه المرحلة، سنتجاوز سؤال “هل تعرف كيف تستخدم التكنولوجيا؟” إلى سؤال “ماذا تنتج بها؟”.
سنتحدث عن محو الأمية الإنتاجية، وعن فرص العمل في الاقتصاد الرقمي، وعن المحتوى المحلي الذي نحتاجه، وعن الاقتصاد الإبداعي، وعن الملكية الرقمية. المقال القادم، رقم 11، سيكون نقطة التحول. سنرى كيف يمكن لأي مواطن رقمي أن ينتقل من مستهلك إلى منتج، من مستخدم إلى فاعل، من متلقٍّ للمحتوى والخدمات إلى مشارك في صناعتها وتطويرها.
*الخبير في مجال الاعمال الالكترونية