
رقمنة
*الاستاذ الدكتور أحمد غندور
خلال عشرة مقالات سابقة في سلسلة “محو الأمية الرقمية”، قطعنا معًا رحلة تأسيس الجاهزية الرقمية. بدأنا من المفهوم الأساسي لمحو الأمية الرقمية، مرورًا بالوعي السيبراني، والذكاء الاصطناعي، والتدريبات العملية، ثم انتقلنا إلى الإطار الوطني، الحوكمة، والهوية الرقمية.
هذه المرحلة الأولى وضعت الأساس: مواطن يعرف التكنولوجيا، يفهم مخاطرها، ويحمي نفسه، ويستخدمها بوعي ومسؤولية.
لكن الوعي وحده لا يكفي. في العالم الرقمي، من يقف عند حدود الاستخدام يظل مستهلكًا، بينما القيمة الحقيقية تأتي من الإنتاج. فالمجتمعات التي تبني اقتصاداتها على الإبداع والإنتاج الرقمي هي التي تملك المستقبل. هنا تبدأ المرحلة الثانية من السلسلة: التمكين الإنتاجي والتحول نحو الاقتصاد الرقمي.
في هذه المرحلة، نتحرك من السؤال: “هل تعرف كيف تستخدم التكنولوجيا؟” إلى سؤال أعمق: “ماذا تنتج بها؟”
لأن التحول الرقمي الحقيقي لا يقاس بعدد المستخدمين، بل بعدد المنتجين القادرين على تحويل المعرفة إلى منتجات، والخبرة إلى محتوى، والمهارة إلى قيمة اقتصادية.
محو الأمية الإنتاجية يعني أن يتعلم الفرد كيف يوظف مهاراته الرقمية لإنشاء محتوى، تطوير خدمات، أو بناء مشاريع رقمية مستدامة. لم يعد المطلوب أن تعرف كيف تستخدم الحاسوب، بل أن تعرف كيف تحوّل الأدوات الرقمية إلى أدوات إنتاج.
خذ مثلًا:
المدرّس الذي يستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لتطوير محتوى تعليمي محلي.
المصمّم الذي يحوّل أفكاره إلى منتجات رقمية قابلة للتداول.
رائد الأعمال الذي يوظف المنصات الرقمية لتسويق منتجه للعالم.
الطالب الذي يبني تطبيقًا لحل مشكلة مجتمعية بدلًا من الاكتفاء بالتعلم النظري.
كل هؤلاء يمارسون محو الأمية الإنتاجية. إنهم لا يستهلكون المعرفة فقط، بل يصنعونها.
الاقتصاد الرقمي يقوم على ثلاثة محاور مترابطة: الابتكار، المهارة، والاستدامة.
لا قيمة لأي مشروع رقمي بلا فكرة جديدة، ولا مستقبل لأي مهارة بلا تطوير مستمر، ولا أثر لأي إنتاج بلا ربطه بسوق أو حاجة حقيقية.
ولكي يصبح هذا التحول واقعًا، لا بد من تمكين المواطن بثلاث أدوات:
1. التعليم المنتج: مناهج تشجع على المشاريع الرقمية وريادة الأعمال، لا على الحفظ والاستهلاك.
2. البيئة الداعمة: منصات، حاضنات، وتمويل صغير تشجع الأفراد على التحول من أفكار إلى منتجات.
3. الهوية والحقوق الرقمية: لأن الإنتاج الرقمي يحتاج إلى حماية فكرية وتشريعية تحمي المبدع من الانتهاك.
في هذه المرحلة الثانية، يتحول المواطن من “جاهز رقميًا” إلى “منتج رقميًا”. لا يكتفي بأن يكون متلقيًا للمحتوى أو مستخدمًا للخدمات، بل يصبح شريكًا في بناء الاقتصاد المعرفي، يخلق فرصه بنفسه، ويسهم في الناتج الرقمي الوطني.
المقال القادم، رقم 12، سيأخذنا خطوة أعمق في هذا المسار، لنناقش فرص العمل في الاقتصاد الرقمي وكيف يمكن لكل فرد أن يجد مكانه في هذا السوق الجديد، سواء عبر المنصات المستقلة، المشاريع الصغيرة، أو الوظائف الرقمية الحديثة.
*الخبير في تخصص الاعمال الإلكترونية