
رقمنة
*وصفي الصفدي
لم يعد الذكاء الاصطناعي فكرة مستقبلية أو خيارًا قابلًا للنقاش، بل أصبح بنية خفية تشكل إيقاع حياتنا اليومية وقراراتنا الاقتصادية والخدمية. غير أن هذا الحضور المتسارع يفرض سؤالًا أعمق من مجرد جدوى التقنية أو كفاءتها، سؤال يتعلق بثمن هذا التحول، وبالجهة التي تتحمل كلفته الفعلية، وبقدرتنا على ضبط العلاقة بين الابتكار وحقوق الإنسان الأساسية. فخلف الواجهات الرقمية السلسة والتجارب الذكية السريعة، تعمل منظومة ضخمة من البنى التحتية الرقمية التي تستهلك كميات متزايدة من الطاقة والمياه، وتضغط بصمت على موارد طبيعية تعاني أصلًا من الندرة والهشاشة.
ومع احتدام المنافسة العالمية على تطوير نماذج أكثر تعقيدًا وقدرات أعلى، تتضاعف هذه الكلفة بوتيرة لا تتناسب دائمًا مع القيمة العامة المتحققة. هنا تنتقل القضية من نطاقها التقني الضيق إلى فضاء أوسع وأكثر حساسية، حيث يصبح التقدم نفسه موضع مساءلة أخلاقية واستراتيجية. فالسؤال لم يعد كيف نسرع الابتكار، بل كيف نضمن ألا يأتي هذا التسارع على حساب المناخ، والأمن المائي، واستدامة الحياة. من هذه الزاوية تبدأ قراءة مختلفة للذكاء الاصطناعي، قراءة لا ترفض التطور، لكنها تضعه في ميزان المسؤولية، وتفتح الباب أمام نقاش أعمق حول المسار الذي نسير فيه، والخيارات التي لا تزال بأيدينا قبل أن تصبح الكلفة أعلى من قدرتنا على الاحتمال.
وفي هذا السياق، نسلط الضوء في هذا المقال للتوقف عند ثلاث قضايا محورية: أين نقف اليوم من حيث استهلاك الطاقة والمياه؟ ماذا يعني استمرار هذا المسار لمستقبل المناخ والحياة البشرية؟ وكيف يمكن إعادة توجيه الذكاء الاصطناعي ليكون جزءًا من الحل، لا عاملًا إضافيًا في تعقيد الأزمة؟
أولًا: أين نقف اليوم؟
الصورة العالمية للطاقة والمياه في عصر الذكاء الاصطناعي
- استهلاك الكهرباء لمراكز البيانات والذكاء الاصطناعي
تُظهر أحدث بيانات الوكالة الدولية للطاقة أن مراكز البيانات استهلكت عالميًا خلال عام 2024 ما يقارب 415 تيراواط ساعة من الكهرباء، أي ما يعادل نحو 1 إلى 1.5 في المائة من إجمالي الطلب العالمي على الكهرباء. ورغم أن هذه النسبة قد تبدو محدودة ظاهريًا، فإنها تمثل حجم استهلاك يقارب استهلاك قطاعات وطنية كاملة في دول صناعية متقدمة.
وفق السيناريو الأساسي، يُتوقع أن يتضاعف هذا الاستهلاك تقريبًا بحلول عام 2030 ليصل إلى نحو 945 تيراواط ساعة سنويًا، وهو مستوى يقترب من الاستهلاك السنوي الحالي لدولة صناعية كبرى مثل اليابان، ويمثل ما يقارب 3 في المائة من إجمالي الكهرباء العالمية. وفي سيناريوهات توسعية أكثر طموحًا، قد يرتفع الاستهلاك المخصص لمراكز البيانات من نحو 460 تيراواط ساعة في عام 2024 إلى أكثر من 1000 تيراواط ساعة بحلول 2030، ثم إلى قرابة 1300 تيراواط ساعة في 2035، مع افتراض توسع متزايد في الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة والنووية إذا نُفذت الخطط المعلنة.
تدعم تقارير مستقلة هذا الاتجاه، إذ تشير إلى أن مراكز البيانات تستهلك حاليًا ما بين 1 و1.5 في المائة من الكهرباء العالمية، مع توقع نمو حاد يقوده بالدرجة الأولى التوسع السريع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي. كما تُظهر تحليلات حديثة، مستندة إلى بيانات رقاقات الحوسبة، أن أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تمثل نحو نصف استهلاك مراكز البيانات من الكهرباء بحلول نهاية عام 2025، بعد أن كانت مسؤولة عن قرابة خمس هذا الاستهلاك فقط في عام 2024.
يمكن اختزال هذا المشهد في مسارين واضحين:
الأول، أن مراكز البيانات لم تعد قطاعًا تقنيًا هامشيًا، بل تحولت إلى قطاع طاقي بحجم دول كاملة.
والثاني، أن الذكاء الاصطناعي هو العامل الأسرع في دفع هذا النمو خلال السنوات القليلة المقبلة.
ومع ذلك، تحذر الوكالة الدولية للطاقة من المبالغة في بعض التقديرات، نتيجة فجوات البيانات وصعوبة تتبع المراكز الخاصة، إضافة إلى افتراضات غير دقيقة تتعلق بمعدلات تشغيل الخوادم ونوعيات المعالجات المستخدمة، ما يستدعي قراءة حذرة ومتوازنة للأرقام.
- البصمة المائية للذكاء الاصطناعي والتبريد
إذا كانت الكهرباء تمثل الوجه الأكثر وضوحًا لاستهلاك الذكاء الاصطناعي، فإن المياه تمثل البعد الأكثر حساسية، لا سيما في الدول التي تعاني أصلًا من شح مائي مزمن.
تشير البيانات الفنية إلى أن متوسط مؤشر كفاءة استخدام المياه في مراكز البيانات يبلغ نحو 1.8 لتر لكل كيلوواط ساعة، مع وجود مراكز عالية الكفاءة لا تتجاوز 0.2 لتر، وأخرى تتجاوز هذا المتوسط بفارق كبير. وتُظهر تحليلات مقارنة أن استهلاك المياه لكل كيلوواط ساعة في مراكز بيانات الشركات الكبرى قد يتراوح بين 1.8 و12 لترًا، تبعًا للموقع الجغرافي، والمناخ، ونظام التبريد المعتمد.
في مرحلة تدريب النماذج الضخمة، تشير دراسات أكاديمية إلى أن تدريب نموذج لغوي بحجم GPT-3 قد يؤدي وحده إلى تبخر ما يقارب 700 ألف لتر من المياه العذبة لأغراض التبريد فقط. وعلى المستوى العالمي، تُقدّر الأبحاث ذاتها أن الطلب على المياه المرتبط بالذكاء الاصطناعي قد يصل بحلول عام 2027 إلى ما بين 4.2 و6.6 مليارات متر مكعب سنويًا من السحب المائي، مع استهلاك فعلي يتبخر ولا يعود إلى الدورة المائية الطبيعية يُقدّر بين 0.38 و0.60 مليار متر مكعب.
هذه الكميات تعادل أو تتجاوز السحب السنوي للمياه في دول كاملة مثل الدنمارك، وتشكل ما يقارب نصف السحب السنوي للمملكة المتحدة. وعلى مستوى المدن، تشير تقديرات بيئية إلى أن مركز بيانات متوسط الحجم قد يستهلك نحو 110 ملايين جالون من المياه سنويًا، في حين قد يصل استهلاك المراكز الكبرى إلى خمسة ملايين جالون يوميًا، وهو ما يعادل استهلاك مدينة يتراوح عدد سكانها بين عشرة آلاف وخمسين ألف نسمة.
ثانيًا: إذا استمرت الوتيرة الحالية
ما الذي يعنيه ذلك لمستقبل المناخ والحياة البشرية؟
- الضغط المتصاعد على شبكات الكهرباء
وفق السيناريو الأساسي، قد يتضاعف استهلاك الكهرباء لمراكز البيانات بحلول عام 2030 ليبلغ نحو 945 تيراواط ساعة. ولا تكمن التحديات في الحجم المطلق لهذا الطلب فحسب، بل في سرعة نموه، إذ ينمو استهلاك الكهرباء في هذا القطاع بمعدل يقارب أربعة أضعاف معدل النمو في بقية القطاعات الاقتصادية.
كما أن التركز الجغرافي لهذا الاستهلاك في دول محددة مثل الولايات المتحدة والصين وبعض الدول الأوروبية يخلق ضغوطًا محلية متزايدة على شبكات الكهرباء وأسعار الطاقة. وتحذر تحليلات وطنية من أن مراكز البيانات قد تصل إلى نسب ثنائية الرقم من إجمالي استهلاك الكهرباء الوطني في بعض الدول خلال أقل من عقد، إذا استمر التوسع الحالي دون ضوابط واضحة.
من زاوية الانبعاثات، تشير التقديرات المتحفظة إلى أن انبعاثات مراكز البيانات قد تصل إلى نحو 300 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون بحلول عام 2035، وهو ما يمثل أقل من 1.5 في المائة من إجمالي انبعاثات قطاع الطاقة عالميًا. وفي المقابل، يمكن لتوظيف الذكاء الاصطناعي في تحسين كفاءة الطاقة والنقل والصناعة أن يسهم في خفض الانبعاثات العالمية بما يصل إلى 5 في المائة، إذا استُخدم ضمن سياسات ذكية ومتكاملة.
- الضغوط التراكمية على المياه والغذاء والاستقرار الاجتماعي
في عالم يعاني فيه أكثر من ثلث سكانه من درجات متفاوتة من الإجهاد المائي، فإن إضافة مليارات الأمتار المكعبة سنويًا من السحب المائي لخدمة الذكاء الاصطناعي تخلق منافسة مباشرة بين الماء المخصص للبيانات والماء المخصص للشرب والزراعة والصناعة.
وفي المناطق الشحيحة مائيًا، قد يؤدي إنشاء مراكز بيانات كبيرة إلى إعادة توزيع غير معلنة للموارد المائية، تنتقل فيها المياه من المجتمعات المحلية والمزارعين إلى شركات التكنولوجيا، بما يحمله ذلك من مخاطر اجتماعية وسياسية واقتصادية يصعب تجاهلها.
ثالثًا: كيف نُحوّل الذكاء الاصطناعي من جزء من المشكلة إلى جزء من الحل؟
- تصميم النماذج والخوارزميات
الانتقال من التركيز على تضخيم حجم النماذج إلى إعطاء الأولوية للكفاءة، وتصنيف النماذج وفق استهلاكها للطاقة والمياه لكل مهمة، مع تشجيع إعادة استخدام النماذج الأساسية بدل إعادة التدريب من الصفر. - البنية التحتية وأنظمة التبريد
التوسع في تقنيات تبريد منخفضة أو عديمة استهلاك المياه، واستخدام مياه غير صالحة للشرب أو معاد تدويرها، إلى جانب استعادة الحرارة المهدرة وإعادة توظيفها في التدفئة أو العمليات الصناعية. - السياسات الوطنية للطاقة والمياه
ربط تراخيص مراكز البيانات بالتزامات واضحة تشمل الاعتماد على الطاقة المتجددة، ووضع حدود لاستهلاك المياه، وفرض الشفافية الإلزامية، وتسعير واقعي للكربون والمياه، خاصة في الأحواض المائية الشحيحة. - الحوكمة الدولية
تطوير معايير عالمية للذكاء الاصطناعي الأخضر وربطها بالمشتريات الحكومية والتمويل الدولي، وبناء تحالفات بين الدول الراغبة في استضافة مراكز بيانات ضمن سقوف واضحة لاستهلاك الكربون والمياه.
رابعًا: ماذا تعني هذه الصورة للدول الشحيحة مائيًا مثل الأردن والمنطقة العربية؟
في دول مثل الأردن، لا يمكن التعامل مع الذكاء الاصطناعي بوصفه ملفًا تقنيًا فحسب، بل باعتباره قضية سيادية ترتبط مباشرة بالأمن المائي والطاقي. فالمطلوب ليس استنساخ نماذج عالمية كثيفة الاستهلاك للمياه، بل تبني مسار ذكاء اصطناعي خفيف، موجَّه لخدمة الأولويات الوطنية، ويربط أي استراتيجية رقمية بمؤشرات واضحة وقابلة للقياس في مجالات الطاقة والمياه والمناخ.
خاتمة
مستقبل البشرية في هذا الملف ليس مسارًا حتميًا، بل خيارًا استراتيجيًا تصنعه القرارات لا الظروف.
القراءة المتأنية للبيانات الحديثة لا تقود إلى تشاؤم مطلق، لكنها في الوقت ذاته لا تتيح الاطمئنان. فالذكاء الاصطناعي، بصيغته الراهنة، يفرض ضغطًا متزايدًا على منظومات الطاقة والمياه، لكنه يحمل في جوهره قدرة حقيقية على إعادة بناء هذه المنظومات لتصبح أكثر كفاءة وعدالة، إذا ما أُحسن توجيهه ووُضع ضمن إطار واضح من الحوكمة والمسؤولية.
جوهر الإشكالية لا يكمن في التقنية بحد ذاتها، بل في الخيارات السياسية والاستراتيجية التي تحكم مسارها. فترك سباق الذكاء الاصطناعي دون ضوابط واضحة سيقود إلى منظومة متقدمة تقنيًا، لكنها قائمة على أساس بيئي هش، يفاقم اختلالات الطاقة والمياه بدل معالجتها.
في المقابل، فإن وضع معايير واضحة لاستهلاك الطاقة والمياه والانبعاثات الكربونية يفتح مسارًا مختلفًا تمامًا، يتحول فيه الذكاء الاصطناعي إلى أداة فاعلة ضمن الحل. أداة تقلل الهدر، تكشف التسربات، تحسن إدارة الشبكات، وتدعم انتقال الدول نحو اقتصاد أخضر أكثر كفاءة وعدالة.
ما نحتاجه في المرحلة المقبلة هو الانتقال من خطاب عام ومبهم حول الكلفة البيئية للذكاء الاصطناعي، إلى معادلة واضحة وقابلة للقياس: كل كيلوواط ساعة وكل لتر ماء يُسخَّر للذكاء الاصطناعي يجب أن ينعكس أثره الإيجابي بشكل ملموس على الأمن المائي والمناخي والاقتصادي للمجتمع.
عند هذه النقطة فقط، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي أصبح فعلًا في خدمة الإنسان، لا عبئًا إضافيًا يُحمَّل على حسابه وحساب الكوكب.
*الخبير في مجال التقنية والاتصالات




