
رقمنة
*محمد صالح
على المستوى المهني، لم يكن عام 2025 عامًا استثنائيًا لأنّه كان صعبًا فقط، بل لأنّه كشف أيضًا، وبوضوح غير مسبوق، عن هشاشة كثير من المسلّمات المهنية التي اعتقدنا بها لفترةٍ طويلة في عوالم التنمية والاستشارات والتقنية. لم تكن الأزمة في كثرة التحديات، بل في الطريقة التي انهارت بها افتراضات أساسية كنّا نتعامل معها بوصفها مسلّمات، كاستمرارية المؤسسات الدولية الكبرى، واستقرار الأطر المؤسسية التي تُبنى حولها البرامج والمشاريع، ورسوخ نماذج العمل التقليدية وتماسكها.
في هذا السياق، لم يكن حلّ الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مجرّد إجراء إعادة هيكلة عادي أو قرار سياسي عابر، بل اختبارًا قاسيًا لاعتماد جزء كبير من القطاع التنموي الدولي المُفرط على منظومات تمويل مركزية، ما شكّل فشلًا واضحًا. فجأة، تبيّن أنّ كثيرًا من المشاريع، والوظائف، وحتى مسارات المعرفة والتعلّم، كانت قائمة على هشاشة غير مُعلنة، وأن المرونة التي طالما تغنينا بها لم تكن مؤسسية بقدر ما كانت خطابية.
في النهاية، أدّى حلّ الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إلى تسونامي حقيقي في عالم التنمية الدولية، تُرجم على شكل إغلاق المشاريع، وتوقّف التمويل، وارتباك مؤسسي، وخسارة عشرات الآلاف من الوظائف، واضطراب قطاع عمل بكامله. كلّ ذلك جرى في ظلّ استمرار الإبادة وجرائم الحرب في غزة والسودان، ما جعل من الصعب، بل من غير الأخلاقي الاستمرار في التعامل مع العمل التنموي الدولي بوصفه نشاطًا تقنيًا مُحايدًا ومنفصلًا عن السياق الأخلاقي والسياسي مع انهيار نفاق المؤسّسات الغربية، وتجاوز الوقاحة الغربية كلّ الحدود في المجاهرة بازدواجية معاييرها
2025، كان عامًا استثنائيًا خلّف كثيرًا من الانطباعات المهنية لديّ، لعلّ أبرزها أنّه في سوق عمل شديد التقلّب، لم تعد الاستمرارية المهنية مرتبطة بالخبرة وحدها، بل بالقدرة على التكيّف مع التحوّلات السريعة وغير المُتوقّعة. المرونة لم تعد خيارًا تنظيميًا أو سمة شخصية مُحبّذة، بل أصبحت شرطًا أساسيًا للصمود. ما كشفه هذا العام أنّ المهنيين والمؤسّسات التي تعاملت مع التغيير بوصفه حالة استثنائية كانت الأكثر عرضة للتعثّر، بينما من تعاملوا معه كمعطى دائم وأسلوب حياة وعمل استطاعوا إعادة ضبط مساراتهم المهنية والعملية. ولن أقول بلا خسائر، ولكن بأقلّ كلفة ممكنة.
غير أن التكيّف وحده لا يكفي. ففي بيئة تتغيّر فيها الأدوار، وتتآكل فيها الوظائف التقليدية، يصبح التعلّم المستمر وبناء القدرات الفردية عنصرين حاسمين لتعزيز التنافسية المهنية. لم يعد كافيًا الاعتماد على تراكم الخبرة السابقة، بل بات لزامًا الاستثمار الواعي في مهارات ومعارف جديدة تواكب تحوّلات السوق، سواء على مستوى الأدوات، أو طرق التفكير، أو فهم السياقات المُتغيّرة التي تُمارس فيها هذه المهارات.
ومع تسارع كلّ هذه التحولات، وفي عصر الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة، يبرز تحدٍّ أعمق من مجرّد بناء القدرات يتمثّل بالحاجة إلى إعادة اختراع الذات مهنيًا. فالبقاء في السوق لا يتحقّق فقط بتطوير ما نُتقنه، بل بإعادة تعريف القيمة التي نضيفها، وخلق حاجة فعلية لما نقدّمه. في كثير من الحالات، لم تعد الفرص قائمة بانتظار من يمتلك المؤهلات، بل باتت تتشكّل حول من يستطيع أن يقدّم نفسه ضمن دور مهني مُعاد تصميمه، يتقاطع مع احتياجات جديدة لم تُصَغ بعد بوضوح.
وضمن هذا العالم شديد التقلّب وفي المراحل الأكثر نضجًا من المسار المهني للبعض منا، تكتسب هذه التحوّلات بعدًا إضافيًا. هنا، لا يقتصر الدور على التنافس أو الاستمرارية الشخصية، بل يمتدّ إلى ضرورة المساهمة في الإنتاج المعرفي ومشاركة الخبرات المُتراكمة. الكتابة، والمشاركة في الفعاليات والمؤتمرات، والمساهمة في النقاشات المهنية، تصبح أدوات لنقل المعرفة، وللمساهمة في تشكيل المجال نفسه، لا مجرّد الحضور فيه. في هذه المرحلة، يتحوّل تراكم الخبرة من رصيد فردي إلى قيمة عامة، تُسهم في بناء فهم أعمق وأكثر واقعية للممارسة المهنية، وكمكافأة إضافية تسهم أحيانًا في تعزيز العلامة الشخصية.
وفي النهاية، برزت هذا العام أكثر من أيّ وقت مضى أهمية التشبيك وبناء الشبكات المهنية بوصفها عنصرًا حاسمًا في بيئةِ عملٍ متقلّبة. فالعلاقات المهنية لم تعد مجرّد قنوات للتعارف أو تبادل الفرص، بل تحوّلت إلى منظومات دعم، وتعلّم، وتبادل معرفة في أوقات الانكماش وعدم اليقين. ما أظهره هذا العام هو أنّ المهنيين الذين استثمروا طويلًا في شبكات قائمة على الثقة والتكامل كانوا أقدر على قراءة التحوّلات مُبكّرًا، وإعادة التموضع بسرعة، ومشاركة الفرص والمخاطر على حدّ سواء. ففي سوق لا يضمن الاستمرارية، تصبح الشبكات المهنية أحد أشكال رأس المال غير المرئي، الذي لا يقلّ أهمية عن المهارة أو الخبرة.
ضمن هذا الإطار أثبت عام 2025 أنّ الصمود المهني لا يمكن أن يكون نتاج خطوة واحدة، بل نتيجة مسار متكامل ومجموعة من المكوّنات تشمل مرونة في التكيّف، واستثمار مستمر في التعلّم، وقدرة على إعادة اختراع الذات، والتشبيك، ثم مساهمة واعية في إنتاج المعرفة ومشاركتها.
كان عامًا صعبًا مهنيًا بلا شك على الكثيرين، ومع ذلك، صمدنا والحمد لله، واستطعنا الاستمرار، كلٌّ بما توفّر له من مُمكنات، وأدوات ومرونة وإرادة. ولعلنا نواجه عامًا آخر بالعزيمة نفسها إن شاء الله، مدركين أنّ الصمود لم يعد خيارًا فرديًا فحسب، بل مسؤولية جماعية. وفي خضم كلّ ذلك، تبقى قلوبنا ودعواتنا مع أهلنا في غزّة والسودان، ومع كلّ المُستضعفين في هذا العالم، حيث يصبح الاستمرار نفسه فعلًا من أفعال المقاومة والأمل.
*الخبير الإستراتيجي والتطوير المؤسسي
المصدر : العربي الجديد




