
رقمنة
*محمد صالح
على الرغم من سرعة خدمات الانترنت التي استخدمها وأحدث الأجهزة، أعاني أحيانًا من بطء استجابة المنصات والتطبيقات العالمية ……. ، فهل نحن مقبلون على انفراجات تكنولوجية أم على انتكاسات في سرعة ونوعية خدمات الإنترنت؟ هذا السؤال بات ملحًّا في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم الرقمي، خاصة مع بروز الذكاء الاصطناعي كلاعب رئيسي في المشهد التقني والاقتصادي. من السهل أن نغري أنفسنا بفكرة أن المستقبل سيكون أسرع وأذكى، لكن الصورة أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه. فبين الطموح نحو شبكات فائقة الأداء والواقع المثقل بأعباء قوة حاسوبية متزايدة، تقف البنية التحتية للإنترنت على حافة اختبار حقيقي لقدرتها على مواكبة الطلب المتفجر على البيانات والمعالجة.
الذكاء الاصطناعي، رغم كونه أحد أعظم إنجازات العقد الأخير، أصبح في الوقت ذاته جزءًا من المشكلة. فالنماذج الضخمة التي تدير المحادثات، وتحلّل الصور، وتدعم محركات البحث، تستهلك طاقة حاسوبية هائلة لا يمكن مقارنتها بالتطبيقات التقليدية. الشركات الكبرى مثل جوجل ومايكروسوفت تخصص آلاف المعالجات الرسومية لتشغيل هذه النماذج، ما يعني عمليًا تحويل قسم كبير من مواردها الحاسوبية إلى خدمة الذكاء الاصطناعي على حساب خدمات أخرى كانت تشكّل العمود الفقري للإنترنت الذي نعرفه. هذه الأولوية الجديدة في توزيع الموارد تجعل بعض الخدمات الأساسية أبطأ استجابةً، وتخلق تفاوتًا بين ما هو مربح تجاريًا وما هو ضروري وظيفيًا.
لكن التأثير لا يتوقف عند حدود القوة الحاسوبية. فمراكز البيانات التي تحتضن هذه الأنظمة العملاقة تواجه ضغطًا مضاعفًا في الكهرباء والتبريد والاتصال الداخلي. كما أن عمليات تدريب النماذج وتشغيلها تتطلب تدفقًا مستمرًا وكثيفًا للبيانات داخل المركز الواحد وبين المراكز المتصلة، مما يؤدي إلى ازدحام في الشبكات الداخلية ينعكس على جودة الخدمات الأخرى. هذه الظاهرة تمثّل الوجه الخفي للذكاء الاصطناعي، فالتوسع الذكي على مستوى البرمجيات، يقابله عبء مادي ثقيل على مستوى البنية التحتية.
ورغم ذلك، لا يمكن إلقاء اللوم كله على الذكاء الاصطناعي. فثمة عوامل أخرى تخلق تدهورًا تدريجيًا في تجربة المستخدم عبر الإنترنت. عدد المستخدمين العالميين في ازدياد مستمر، والأجهزة المتصلة (من الهواتف إلى السيارات إلى الثلاجات الذكية) تملأ الفضاء الرقمي بطلب لا يتوقف. المحتوى نفسه تغيّر: لم نعد نتعامل مع نصوص وصور ثابتة، بل مع فيديوهات عالية الدقة وبث مباشر وألعاب سحابية تتطلب عرض نطاق ترددي غير مسبوق. وفي الوقت نفسه، ازدادت المواقع والتطبيقات تعقيدًا من الداخل، إذ تحمل أغلبها العشرات من الشيفرات الخارجية وأدوات التتبع والتحليل، وكلها تتنافس على قدرة المعالجة سواء في جهاز المستخدم أو على الخادم البعيد أو فيما بينهما.
يضاف إلى ذلك التحدي المتعلق بتوجيه البيانات عبر العالم. فشبكة الإنترنت ليست طريقًا مستقيمًا بل سلسلة من العقد الوسيطة، وأي ازدحام في واحدة منها يمكن أن ينعكس على ملايين المستخدمين. ومع اتساع الفجوة بين المناطق من حيث البنية التحتية الجغرافية، تصبح السرعة مسألة موقع بقدر ما هي مسألة تقنية. كما لا يمكن تجاهل تصاعد الهجمات الإلكترونية، خصوصًا هجمات حجب الخدمة التي تضع ضغطًا إضافيًا على المنصات، وتجبرها على تخصيص موارد دفاعية ضخمة بدلاً من تحسين الأداء.
هذه الصورة المركّبة تجعل من الصعب إصدار حكم نهائي حول الاتجاه الذي نسير فيه. من جهة، التقدّم في الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية يَعِد بمستقبل أكثر كفاءة وذكاء في إدارة الشبكات. ومن جهة أخرى، هذا التقدّم ذاته يستهلك موارد ضخمة ويُعيد توزيع الأولويات التقنية بطريقة قد تخلق اختناقات مؤقتة أو حتى تراجعًا في بعض جوانب الأداء. يبدو أن الإنترنت يعيش مرحلة انتقالية بين عالم الأمس، القائم على التصفح البسيط، وعالم الغد، القائم على المعالجة الفورية الذكية، وهي مرحلة تثير من القلق بقدر ما تفتح من الأمل.
إن الإجابة الصادقة عن سؤال الانفراج أو الانتكاس ليست في التنبؤ بالمستقبل القريب، بل في فهم ديناميكية التوازن الحالية بين الابتكار والاستهلاك. فإذا استطاعت الشركات والحكومات تطوير بنية تحتية أكثر كفاءة في الطاقة والحوسبة، وتبنّت نماذج تشغيل موزعة وذكية لتخفيف الضغط عن المراكز العملاقة، وطورت خوارزميات ذكاء اصطناعي أقل استهلاكاً للطاقة، فربما نكون على أعتاب انفراجة تكنولوجية حقيقية. أما إذا استمر السباق نحو مزيد من الذكاء دون إصلاح عميق في بنية الشبكات، فقد نكتشف أن عصر الذكاء الفائق جاء على حساب سرعة الاتصال التي كانت رمز الثورة الرقمية الأولى.
*الخبير الإستراتيجي والتطوير المؤسسي




