مقالات

الخبير الإستراتيجي والتطوير المؤسسي محمد صالح يكتب لـ ” رقمنة” ….. من جعجعة الميتافيرس إلى طحن الذكاء الاصطناعي

رقمنة 

محمد صالح

قبل أعوام قليلة فقط، كانت الضجة التي أحدثها مفهوم الميتافيرس تضاهي صخب اكتشاف قارة جديدة. تسابقت كبرى الشركات العالمية لإعادة رسم مستقبلها على إيقاع هذا العالم الرقمي الموعود، وأُغدقت المليارات على تطوير عوالم افتراضية، حتى أنهم اخترعوا مسميات وظيفية جديدة مثل (رئيس الميتافيرس)، بل وبيعت عقارات افتراضية بمبالغ طائلة من الدولارات. حتى بدا الأمر وكأننا على أعتاب ثورة شاملة ستعيد تعريف الحياة والعمل والتواصل.

لكن، فجأة، خفت الوهج، وابتلع الزمن تلك الوعود، فعادت الكلمات الطنانة إلى الأدراج، بينما تهاوت الاستثمارات، وتوارى الميتافيرس في الظل أمام صعود صاروخي غير مسبوق للذكاء الاصطناعي.

فما الذي حدث؟ ولماذا سقطت الميتافيرس بهذه السرعة؟ ولماذا خبا وهج تقنية بدت واعدة؟

قد يكمن جزء من الجواب في الفجوة بين الحلم والواقع. فالميتافيرس، رغم جاذبيتها البصرية والفكرية كانت ضحية مزاوجة غير ناضجة بين الطموح التكنولوجي والتسويق المبالغ فيه وضعف الحاجة الواقعية. فبينما روّجت الشركات لرؤية مستقبلية مبهرة، لم تكن البنية التحتية جاهزة، ولا الأجهزة ميسورة، ولا السيناريوهات مقنعة للمستخدمين، ولا عامة الناس مهيئين للقفز على هذا المركب. فلم يجد المستخدم العادي سببًا مقنعًا لارتداء نظارة ثقيلة والانغماس في عالم باهت لا يقدم قيمة تتفوق على ما هو متاح في هاتفه المحمول أو في تطبيقاته اليومية، ولم يكن هناك دافع اجتماعي أو اقتصادي حقيقي يجعل الناس يتركون هواتفهم لينتقلوا إلى العوالم الافتراضية. ولربما زاد الاعتماد المفرط على الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs) والعقارات الرقمية من تفاقم وهم القيمة دون مضمون فعلي.

افتقرت الميتافيرس إلى أدوات ناضجة، وواجهت جمهوراً غير مستعد، ولم تقدم استخدامات واقعية تُغري المستخدمين اليوميين. في المقابل، جاء الذكاء الاصطناعي بقدرات ملموسة وليدًا لعقود من التطوير المتدرج، وجاء بأدوات جاهزة، ونماذج لغوية قادرة على إنتاج نصوص، صور، رموز برمجية، وحتى قرارات شبه بشرية. الذكاء الاصطناعي بأشكاله الحديثة دخل بسرعة إلى مجالات الصحة، والتعليم، والمالية، والإعلام، وحل مشاكل يومية، ما جعله ليس حلماً بعيداً، بل أداة حاضرة وفعّالة.

وعلى النقيض من الميتافيرس، يبدو أن الذكاء الاصطناعي صعد كنتاج ناضج لتراكم طويل في الحوسبة والبيانات والخوارزميات، ومهدت له الأدبيات العالمية منذ أربعينيات القرن الماضي منذ أعمال أمثال إسحاق اسيموف. فالذكاء الاصطناعي لم يُروَّج له كحلمٍ باهر، بل قدم نفسه كأداةٍ واقعية تتسلل إلى المهام اليومية من محررات النصوص، إلى تحليل الصور، وصولاً إلى تحسين التشخيص الطبي وإدارة المخاطر والتنبؤات الاقتصادية.

أما من راهنوا على الميتافيرس، فيبدو أنهم قد دفعوا الثمن على الأقل في المديين القصير والمتوسط. فالشركات التي غيرت أسماءها واستراتيجياتها لمواكبة الموجة اضطرت إلى إعادة التموضع، وتسريح الموظفين، وتقليص المشاريع والموارد المرصودة. أما الأفراد الذين اشتروا عقاراتٍ افتراضية في منصات مثل (Decentraland) و (Sandbox)، فوجدوا أنفسهم أمام استثمارات راكدة بلا جمهور ولا قيمة سوقية حقيقية. بعض تلك المشاريع كانت تَعِدُ بعوائد ضخمة وبعوالم تعج بالحركة، لكنها ظلت مهجورة كمدن أشباح رقمية، لا يرتادها سوى بضعة مئات أو الاف من الجواليين، ولربما نسيت فلم يعد يعلم بوجودها أحد.

اليوم، ونحن نراقب الذكاء الاصطناعي وهو يواصل تحطيم الحواجز في كل مجال، نكتشف الفرق الجوهري بين تقنية تُبنى على احتياج فعلي وتلبي غرضًا واضحًا وتمهد لمستقبل بعيد، وبين فقاعة تسويقية تعتمد على الإثارة والفضول دون أساس عملي متين على الأقل في حاضرنا ومستقبلنا المنظور. وبالتأكيد الذكاء الاصطناعي ليس منيعًا ضد الفشل والكبوات وليس محصنًا ضد التصحيح أو التحديات الأخلاقية والتنظيمية، لكن خطورته تكمن في قوته، لا في وهمه. أما الميتافيرس، فقد يكمن مستقبله في نضوج تقنيات الواقع الممتد، أو في تفاعل الأجيال الرقمية الجديدة معه بطريقة عضوية، لا مفروضة من الأعلى. بالتأكيد لم يكن الميتافيرس كذبة، لكنه لم يكن جاهزًا ليتسيد الموقف، وتراجع الضجة لا يعني نهاية الميتافيرس، بل هو لربما فرصة لتطوره. فبدلاً من التركيز على بناء عوالم افتراضية كاملة من الصفر، بدأت الشركات في دمج مفاهيم الميتافيرس في تطبيقات موجودة، مثل ألعاب الفيديو وتطبيقات الواقع المعزز.

على جانب آخر أتابع هذه الأيام باهتمام تطور نظارة ميتا – راي بان الذكية وشقيقاتها من المطورين الآخرين واعتقد أنه سيكون لهذه النظارات مستقبلا واعدًا على المدى القريب أكثر من الميتافيرس كتقنية تفرض نفسها لا كضجيج إعلامي، بل كتحول تدريجي وهيكلي، وعلى الرغم من تأخر تقنياتها مقارنة بالهواتف الذكية فإن لديها فرصة لإعادة  تشكيل المشهد وطريقة تعاطينا مع التكنولوجيا، بينما يبقى المستقبل مفتوحًا لموجات تقنية جديدة، يبقى الدرس الأهم من فقاعة الميتافيرس هو أن النجاح في التكنولوجيا لا يتطلب وعودًا براقة، بل يتطلب توقيتًا مناسبًا، واحتياجًا حقيقيًا، واستدامةً عملية تُختبر بمرور الزمن.

*الخبير الإستراتيجي والتطوير المؤسسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى