مقالات

الجامعات في زمن ما بعد المؤشرات: دعوة إلى ثورة عالمية لتحرير المعرفة

رقمنة

*الدكتور هاني الضمور 

استاذ التسويق الدولي في الجامعة الاردنية 

لم يعد خافيًا على أحد أنّ النظام الأكاديمي العالمي يعيش أزمة عميقة. الجامعات التي وُجدت لتكون مصانع للأفكار ومختبرات للمعرفة تحوّلت في العقود الأخيرة إلى مؤسسات مرهونة لأرقام جامدة، تُقاس قيمتها بتصنيفات تجارية تُدار من خارجها، وتُقيّم أبحاثها بمؤشرات ابتكرها ناشرون كبار لا لشيء سوى تكريس الهيمنة وجني الأرباح. هذا الواقع لم يأتِ صدفة، بل هو نتيجة هندسة دقيقة فرضت على الجامعات سباقًا محمومًا نحو “معامل التأثير” و”الترتيب العالمي”، حتى صارت الجامعة في كثير من الحالات أقرب إلى شركة تسويق معرفي منها إلى مؤسسة فكرية مستقلة.

لكن العالم تغيّر. والتاريخ لا ينتظر. الأزمات الكونية التي نعيشها ـ من تغيّر المناخ إلى الأوبئة العالمية، ومن أزمات الغذاء إلى التحديات الأخلاقية للذكاء الاصطناعي ـ تُثبت أن النظام القائم لم يعد قادرًا على أداء وظيفته. كيف يمكن لجامعات تُحاصر أبحاثُها خلف جدران الدفع أن تدّعي أنها تخدم الإنسانية؟ وكيف لبحوث تُقاس بعدد الاستشهادات أن تواجه قضايا تتعلق بمصير الكوكب؟

لقد آن الأوان للاعتراف بالحقيقة: عصر هيمنة شركات النشر الكبرى يقترب من نهايته. لم يعد ممكنًا أن يبقى العقل الإنساني رهن مؤشرات تجارية لا علاقة لها بالقيمة الحقيقية للمعرفة. والمطلوب اليوم ليس مجرد إصلاح جزئي، بل ثورة معرفية شاملة تُعيد تعريف وظيفة الجامعة في القرن الحادي والعشرين.

هذه الثورة تبدأ بإعادة توجيه البوصلة: من الهوس بالأرقام إلى الاهتمام بالأثر. قيمة البحث العلمي لا تُختصر في عدد مرات الاستشهاد به، بل في قدرته على أن يغير حياة الناس، أن يلهم السياسات العامة، أن يقدم حلولًا واقعية للتحديات الكبرى. الجامعة التي تُقاس بنجاحها في تحسين التعليم في محيطها، أو في تطوير زراعة أكثر استدامة، أو في ابتكار تقنيات تخدم الصحة العامة، أكثر جدارة بالاعتراف من جامعة تتباهى بترتيب في جدول صنعته مؤسسة تجارية.

ولكي يتحقق هذا التحول، يجب أن تستعيد الجامعات زمام المبادرة. لا يكفي رفض التصنيفات القائمة، بل ينبغي بناء بدائل حقيقية. يمكن للجامعات أن تتحالف لإطلاق منصات نشر مستقلة مفتوحة الوصول، تُدار بشفافية وبآليات مراجعة علمية صارمة، دون رسوم مبالغ فيها ودون إملاءات من الشركات المحتكرة. يمكنها أن تُنشئ شبكات عالمية لتبادل البيانات والنتائج البحثية فورًا، بحيث تصبح المعرفة ملكًا مشاعًا للبشرية، لا امتيازًا يُباع في السوق. ويمكنها أن تُعيد صياغة مقاييس التقييم الأكاديمي بما يركز على الأثر المجتمعي والتعاون الدولي، بدلًا من الأرقام المجردة.

إن بناء هذا النظام الجديد يتطلب شجاعة سياسية وأكاديمية. على رؤساء الجامعات أن يعلنوا استقلال مؤسساتهم عن المؤشرات المفروضة، وأن يصوغوا معاييرهم الخاصة بما يتلاءم مع رسالتهم. عليهم أن يدركوا أن استمرار الارتهان للتصنيفات لن يجلب لهم إلا التبعية، بينما التحرر منها يمنحهم موقع الريادة. في هذا السياق، يمكن لجامعات الجنوب العالمي أن تلعب دورًا محوريًا، فهي الأكثر تضررًا من النظام الحالي والأكثر حاجة إلى نموذج بديل يعكس أولوياتها.

إن الدعوة إلى إنهاء عصر الهيمنة ليست نزوة مثالية، بل ضرورة وجودية. فالجامعات التي ستبقى أسيرة لمعامل التأثير ستفقد مكانتها وتتحول إلى ملحقات تجارية. أما التي ستختار أن تقود الثورة، فستدخل التاريخ باعتبارها صانعة معيار جديد للمعرفة. هذا المعيار سيكون عالميًا بامتياز، لأنه لا يقوم على إقصاء أو احتكار، بل على مشاركة وانفتاح. سيكون أكثر عدلًا، لأنه يمنح الصوت للمجتمعات التي طال تهميشها. وسيكون أكثر إنسانية، لأنه يعيد للعلم رسالته الأصلية: خدمة البشر والكوكب.

تخيلوا عالمًا لا تُقاس فيه الجامعات بعدد المقالات المنشورة في مجلات مغلقة، بل بعدد الحيوات التي أنقذتها أبحاثها، بعدد السياسات التي ساهمت في صياغتها، بعدد الحلول التي قدمتها لمشاكل واقعية. تخيلوا شبكة عالمية من الجامعات تتشارك نتائجها في اللحظة نفسها، بحيث يُصبح أي اكتشاف متاحًا للجميع فورًا، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال. تخيلوا أن يُصبح التعليم العالي فضاءً محررًا من قيود السوق، وميدانًا حقيقيًا للتعاون العالمي.

هذه ليست أحلامًا طوباوية. هذا مستقبل ممكن، بل ضروري. لكنه يتطلب قرارًا شجاعًا: قرارًا من الجامعات بأن تكتب بنفسها القواعد الجديدة، وأن تتحرر من قيود الماضي، وأن تتحمل مسؤوليتها تجاه العالم.

إننا اليوم أمام لحظة فاصلة: إما أن نواصل اللهاث وراء مؤشرات لا تُقيس إلا نفسها، فنفقد رسالتنا، أو أن نعلن ميلاد عصر جديد للجامعة، عصر المعرفة الحرة المفتوحة، عصر التأثير الحقيقي. هذه اللحظة تحتاج إلى قادة يفكرون عالميًا ويتصرفون بشجاعة، قادة يدركون أن تحرير الجامعة من أسر النشر التجاري ليس ترفًا، بل شرط لبقائها، ولقدرتها على أن تكون منارة للعالم.

فالجامعة التي ستقود المستقبل ليست تلك التي تتسلق سلالم التصنيفات، بل تلك التي تُشعل الطريق للإنسانية.

المصدر : صحيفة الغد اليومية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى