مقالات

أخصائية الإرشاد الاسري والرقمي هبة حبش تكتب لـ ” رقمنة” : الإنفلات الرقمي يهدد الأجيال الناشئة

رقمنة 

*هبة الحبش

لم يعد الفضاء الرقمي مجرد انعكاس لتطور تكنولوجي متسارع، بل تمخضت عنه ظواهر سلبية تتمثل في حالة من الإنفلات الرقمي التي يمكن وصفها أيضًا بـ “اللا–نظام الرقمي”؛ حيث تختلط الفرص بالمخاطر والتهديدات في بيئة غير مضبوطة المعايير لا تراعي خصوصيات الفئات العمرية؛ خصوصًا الفئات ذات السن الصغير أو ما يُعرَف بالأجيال الصاعدة (جيلي زد وألفا).

في قلب هذه التحولات يقف الجيلان في فضاء تفاعلي تغزوه الهواتف الذكية والمنصات الاجتماعية منذ طفولتهما المبكرة، على مخاطر كثيرة تنتشر بلا ضوابط في الفضاءات الرقمية.

 غير أن هذه البيئة التي يفترض أن تكون مساحة للتعلم والتواصل لهذه الأجيال الصاعدة، قد أفرزت تحديات جسيمة تمثلت في التعرض لمحتوى غير المناسب، بالإضافة إلى تعرضهم للتنمّر والتحرش والابتزاز الإلكتروني ، هذا غير الأمور الأخرى والتي تعد من سلبيات الفضاء الالكتروني مثل توسع نطاق الجرائم الالكترونية في الفضاء الرقمي ، مما يحمل معه انعكاسات خطيرة على الصحة النفسية والاجتماعية، وبالتالي، وأمام هذا الواقع، يصبح تعزيز الوعي الرقمي وإيجاد آليات حماية شاملة ضرورة لا تحتمل التأجيل.

  • تصاعد الجريمة الإلكترونية وآثارها على الأجيال الناشئة:

تؤكد المؤشرات العلمية والبحثية أن الجريمة الإلكترونية في تصاعد مستمر، إذ لم تعد تقتصر على الجرائم الالكترونية التقليدية، بل صارت تمتد لجرائم جديدة من نوعها وفئتها، فطالت بذلك الفئات القاصرة بصورة مباشرة.

فالمراهقون والأطفال، بوصفهم الطرف الأضعف في البيئة الرقمية، يواجهون تهديدات يومية تتراوح بين المضايقات الرقمية وصولًا إلى الأشكال المختلفة من الاستغلال الجنسي والابتزاز. مما قد دفع بعض المؤسسات الوطنية والدولية إلى التحرك لمواجهة هذه التحديات والتهديدات المختلفة التي تشكل خطرا على الجيل الصاعد، فقامت مثلًا مديرية حماية الأسرة بخلق مبادرة متخصصة في حماية الأسرة؛ وذلك من خلال إنشاء وحدة متخصصة لمكافحة الاستغلال الجنسي للأطفال عبر الإنترنت بدعم من اليونيسف، وهو ما يمثل جهود متكاملة لمواجهة هذه الأخطار من قبل المؤسسات الرسمية

  • اللا–نظام الرقمي وتحديات الخوارزميات: مخاطر يواجهها الأطفال والمراهقين:

إن أبرز مظاهر ” اللا–نظام الرقمي” تتمثل في طبيعة الخوارزميات التي تحكم المنصات الاجتماعية؛ إذ تعوز هذه الخوارزميات القدرة الدقيقة على تمييز الأعمار؛ فلا تفصل ما بين الفئات ذات الطابع العمري الكبير وبين الفئات ذات الطابع العمري الصغير، مما يؤدي إلى اقتراح محتوى لا يتناسب مع وعي الطفل أو المراهق.

ونتيجةً لذلك يجد اليافعون أنفسهم أمام مقاطع ذات طابع عنيف أو جنسي، والتي بدورها تُسهم في خلق ضغوط نفسية عليهم تعمل على تشويش إدراكهم ومنظورهم للحياة الواقعية.

ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه إلى جرائم أخرى مختلفة مثل التنمّر الإلكتروني عبر رسائل مسيئة، أو استغلال الصور الشخصية في الابتزاز المادي والمعنوي.

وبالتأكيد، فإن هذه الممارسات ستترك أثرًا عميقًا على الصحة العقلية للأطفال والمراهقين، وستزيد من معدلات القلق والاكتئاب والعزلة الاجتماعية لديهم، مما يجعل اللا–نظام الرقمي تحديًا تربويًا وصحيًا وأمنيًا في آن واحد، يقع على كاهل الآباء والمجتمع والمؤسسات الأمنية التصدي له بقبضة رجل واحد.

  • المسؤولية المجتمعية لحماية الأجيال الصاعدة من قبل الجهات المختلفة:

إن حماية جيلَي ” زد والفا” من تبعات الإنفلات الرقمي ليست مهمة جهة واحدة بعينها، بل هي مسؤولية مجتمعية متكاملة تضطلع بها الأسرة والمدرسة والدولة والشركات التقنية في شبكة مترابطة من الأدوار. فدور الأسرة في هذا الأمر يتمثل في بناء وعي رقمي قائم على الثقة والانفتاح من خلال إقامة حوار هادف بين الآباء والأبناء، بينما يكمن دور المؤسسات التربوية في ترسيخ قيم الاستخدام المسؤول ودمج التربية الرقمية ضمن المناهج التعليمية.

 أما الشركات التقنية، فيجب عليها أن تعيد تصميم منصات ووسائل التواصل الاجتماعي بما يراعي خصوصية الأطفال والمراهقين وعقليتهم، وبما يحميهم من التعرض لمحتوى جنسي/ عنيف غير هادف يؤثر على نفسيتهم،  وعلى الطرف المقابل، تظل الدولة الطرف الذي له اليد العليا في هذا الأمر؛ وذلك عبر صياغة سياسات وطنية واضحة، وتشريعات رادعة، وأدوات رقابية قابلة للتنفيذ، تعمل على حماية الأطراف الضعيفة من الانفلات الرقمي والجرائم الالكترونية المختلفة، إذًا، لا يمكن لأي طرف من هذه الأطراف أن ينجح بمفرده؛ فالتحدي يفرض تعاونًا جماعيًا يوازن بين حق الشباب في الاستفادة من التكنولوجيا وحقهم في الحماية من مخاطرها.

  • نحو وعي رقمي مسؤول من قبل الأجيال الصاعدة:

ليس المطلوب اليوم أن يُحجب العالم الرقمي عن الأجيال الناشئة، بل أن يُمنحوا الأدوات التي تمكّنهم من التعامل معه بوعي ومسؤولية؛ فيستبعدون بذلك المحتوى الغير هادف ويتجنبونه دون أن يسبب لهم مشاكل، فالرهان الحقيقي يكمن في التربية الرقمية الحوارية، وتنمية مهارات التفكير النقدي، وإكساب الأطفال والمراهقين القدرة على التمييز بين النافع والضار في الفضاء الإلكتروني؛ فمن خلال هذه الأساليب، يمكن تحويل التكنولوجيا من بيئة فيها تهديد للأجيال الناشئة  إلى مساحة آمنة لهم وفرصة واعدة للنمو والتعلم والإبداع.

إن ظاهرة الإنفلات الرقمي أو ما يُعرف أيضًا بـ اللا–نظام الرقمي تمثل تحديًا وجوديًا وخطرًا أمام الأجيال الجديدة، خاصة جيلَي ” زد والفا” ، الذي يعيش في بيئة رقمية توفر له مساحة للارتقاء والتطور بقدر ما تعرضه للأخطار والتهديدات.

 إن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب القيام بخطوات عديدة تتمثل بتعزيز الوعي الرقمي، وتفعيل المسؤولية المجتمعية، وتبني سياسات وطنية شاملة؛ بحيث يتحول الفضاء الرقمي من ساحة فوضى إلى بيئة آمنة تضمن لهذه الأجيال مستقبلًا أكثر استقرارًا وتوازنًا.

 

*اخصائية الارشاد الاسري والرقمي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى